كاتب قطري متخصص في حقوق الإنسان والحوار الحضاري والفكر السياسي
«الأمم العاقلة هي الأمم التي تؤمن بالإنسان وبقيمته، وبأن رأسمال مستقبلها في عقل هذا الإنسان وأفكاره وإبداعاته». بهذه الفقرة البليغة، اختتم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، مقالته «الهجرة المعاكسة للعقول»، التي نشرتها العشرات من الصحف العربية والعالمية والعديد من المواقع الإلكترونية، كما لقيت أصداءً واسعة، تناقلتها أقلام ست عشرة لغة بالترجمة والدراسة والتحليل في تسع وأربعين بلداً حول العالم، ومن وحيها كتبت مقالة سابقة بعنوان «عودة العقول المهاجرة»، نشرتها صحف خليجية عدة. ولا غرو في الأمر، فمقالة الشيخ محمد بن راشد تعالج قضية بالغة الأهمية تتعلق بمصير الشعوب والأمم وبمستقبل المجتمعات والأوطان، كما تتعلق بـ«أعظم ثروات الأمم»، وهي العقول والكفاءات والمواهب والطاقات المبدعة، وبتهيئة المناخات الملائمة لاجتذابها وتوظيفها، وأهمية الاستثمار في العنصر البشري، باعتباره «الاستثمار الأبقى» والأفضل للموارد والثروات.
كما تتضمن المقالة رؤية سموه للشروط الضرورية اللازمة لاستقطاب الكفاءات والعقول والطاقات وتفعيلها في خدمة الأوطان والمجتمعات، بما يساهم في تنميتها وتقدمها وصنع واقع أفضل.
تُرى ماهي الدوافع وراء انشغال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد بهذه القضية الحيوية؟
يذكر سموه، أنه خلال سنوات دراسته في بريطانيا، راجع طبيبه المعالج، وكان عربياً، فسأله: إن كان ينوي البقاء طويلاً أم العودة لوطنه قريباً، فقال له: «وطني حيث لقمة عيشي». وبقيت هذه الكلمات عالقة في ذهنه طويلاً، ليتساءل: ما مفهوم «الوطن» أمام واقع عربي صعب يدفع بأفضل العقول للبحث عن وطن جديد وفرص جديدة وآمال حقيقية؟ ثم يضيف سموه: الأمر لا يقتصر على الدول العربية، بل كثير من دول العالم الثالث، تصرف الكثير من مواردها على التعليم والابتعاث لتخريج المهندسين والأطباء والباحثين والعلماء، أملاً في أن يساهموا في صنع واقع أفضل لأوطانهم، لكن لصعوبة الواقع، تضطر آلاف العقول للهجرة، وآلاف أخرى لا تعود، لتكون خسارة الأوطان مضاعفة: كُلفة إنفاق يجني ثمرته آخرون، وكُلفة حرمان الوطن من جهود أبنائه، وهذا ما تسميه أدبيات التنمية «نزيف العقول» و«استنزاف الثروة الوطنية»، وقد قدّرت دراسات الأمم المتحدة كلفته بأرقام فلكية، الأمر الذي دفع «اليونيسكو» في عام 1974 لأنْ تصدر توصية بإنشاء صندوق عالمي للعلوم، بهدف تعويض البلدان الأقل نمواً عن خسارتها جرّاء الكفاءات العلمية المهاجرة.
وإذْ لا لوم على من هاجر بحثاً عن فرص أفضل وحياة كريمة وبيئة يستثمر فيها طاقاته، كما لا لوم على الدول المستقبلة للعقول المهاجرة وفتح أبوابها ومعاملها ومختبراتها ومستشفياتها وجامعاتها لها، فنحن في عالم سقطت حواجزه وأصبح التنافس الدولي شديداً -جامعات وشركات عابرة للقارات- من أجل جذب أفضل العقول. وقد زادت هجرة العقول خلال العقد الأخير لأكثر من 30 في المئة، وهذا يفرض على الدول العربية تحديات أكبر من أجل جذب العقول المهاجرة وتفعيل طاقات وكفاءات أبنائها الذين لم يهاجروا، عبر توفير البيئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية المحفّزة للطاقات والمستقطبة للكفاءات المهاجرة في الوقت نفسه.
ومع أن النظرة المتشائمة إلى البيئة العربية، كونها بيئة طاردة للكفاءات، هي الغالبة -طبقاً للدراسات البحثية- إلا أن لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد «رؤية مختلفة»، تمنحنا أملاً في تغيير الصورة القاتمة، وكسر الدائرة البائسة في هجرة العقول، إذ يرى أن التاريخ لا يسير في اتجاه واحد فقط، والعالم ليس مكاناً ثابتاً، بل هو في تغير مستمر. وتكشف المقالة عن دراسة، -لشركة «لينكد إن»، وهي أكبر مجمع إلكتروني عالمي- حول «هجرة العقول» وحركتها بين مختلف دول العالم، حيث صنّفت أكثر من 20 دولة، ما بين رابحة وخاسرة في عملية التنافس من أجل استقطاب العقول. وكانت المفاجأة أن الدولة الأولى عالمياً في استقطاب المواهب هي دولة الإمارات العربية المتحدة، كما جاءت دول الاقتصادات الصاعدة، مثل البرازيل، والهند، وجنوب أفريقيا، والسعودية، في مقدمة الدول الأكثر استقطاباً للعقول، جنباً إلى جنب مع سنغافورة وسويسرا وألمانيا. وكانت أكثر الدول المصدرة للعقول: إسبانيا، وبريطانيا، والولايات المتحدة، وإيطاليا، وإيرلندا، وذلك في الفترة من نوفمبر 2012 وحتى نوفمبر 2013.
ليس معنى ذلك أن الصورة الكاملة تغيرت أو أن الدول المتقدمة تراجعت عن استقطاب المزيد من العقول، لكن هدف رؤية سموه «تحفيز» الدول العربية وبلدان العالم الثالث على تغيير الصورة النمطية، والتنبيه إلى أنه بإمكان الكثير من هذه الدول الخروج من الدائرة البائسة في هجرة العقول التي هي أساس التنمية، وهنا يقدم سموه نموذجاً ناجحاً طبقته دولة الإمارات، يقوم على عاملين حاسمين في احتضان الكفاءات الوطنية، وتفعيل الطاقات المقيمة، وفي استقطاب الكفاءات المهاجرة، أولهما: خلق الفرص والخيارات، وتوفير البيئة السليمة للنمو والتطور، والمناخ المحفز للاستثمار وإدارة الأعمال، إضافة إلى توفير أجواء عالية من الشفافية والحوكمة الرشيدة، وتساوي الفرص أمام الجميع.. الأمر الذي مكّن دولة الإمارات من تبوؤ المركز الأول عالمياً في الكفاءة الحكومية والثاني عالمياً في ممارسة الأعمال والثالث عالمياً في الأداء الاقتصادي.
أما العامل الثاني، فهو ضمان «جودة الحياة» في مجالات التعليم والصحة والخدمات والبنية التحتية والإلكترونية، إضافة إلى الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي، والرفاه المعيشي المتاح، والمناخ الاجتماعي المتقبل للآخر المختلف دينياً ومذهبياً وقومياً، وأيضاً -وهو الأهم- إشاعة روح التسامح كسمة من السمات المميزة للمجتمع الإماراتي.
المصدر: الاتحاد