فجع الوسط الثقافي في السعودية أمس برحيل المفكر والأكاديمي راشد المبارك (1935-2015)، الذي يعد أحد أبرز الرموز الثقافية خلال العقود الأخيرة، وتميز بالجمع بين العلم والأدب، فهو أستاذ متخصص في الفيزياء والكيمياء، وهو كذلك أديب وشاعر، وعرف كذلك باعتباره محققاً أسهم بفاعلية في إنجاز الموسوعة العربية العالمية، أكبر الموسوعات العلمية في العالم العربي، إلى جانب الصالون الثقافي الذي كان يقيمه الراحل يوم الأحد من كل أسبوع. ولد المبارك في الأحساء وتلقى تعليمه العام بها، وحصل على الدرجة الجامعية في الفيزياء والكيمياء بتقدير جيد جداً من كلية العلوم بجامعة القاهرة في عام 1964، وابتعث للدراسة وحصل على دبلوم الدراسات العليا في الفيزياء الجزيئية من جامعة مانشستر في خريف عام 1969، وحصل على الدكتوراه في كيمياء الكم من جامعة جنوب ويلز بمدينة كارديف عام 1974. وعمل أستاذاً لكيمياء الكم في كلية العلوم بجامعة الملك سعود حتى عام 1992، وعميد كلية الدراسات العليا بجامعة الملك سعود، وعضو مجلس الأمناء بمعهد تاريخ العلوم العربية بجامعة فرانكفورت، ورئيس المجلس التنفيذي للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة بمدينة الرباط بالمغرب، وعضو المجلس الأعلى للإعلام في السعودية، وعضو مجلس الإدارة بدارة الملك عبدالعزيز. وأصدر الراحل العديد من الكتب والمجاميع الشعرية، مثل «كيمياء الكم»، و«هذا الكون ماذا نعرف عنه»، و«قراءة في دفاتر مهجورة»، و«فلسفة الكراهية»، و«التطرف خبز عالمي»، و«شعر نزار بين احتباسين». وله ديوانان من الشعر بعنوان «رسالة إلى ولادة»، و«قراءة في دفاتر مهجورة»، وفاز كتابه «شموخ الفلسفة وتهافت الفلاسفة» بجائزة وزارة الثقافة والإعلام.
ولطالما اعتبر الراحل أن الفلسفة مطلب مهم، وحذر من تفشي ظاهرة الغفلة وغفوة العقل البشري من أن يستفسر ويسأل ويتأمل، خصوصاً مع تفشي عبارات كثيرة بعضها أدعية دينية يتم ترديدها حتى من بعض العلماء من دون تأمل في معانيها، مثل الكلمات التي تقال عادة عند العزاء كـ«خاتمة الأحزان إن شاء الله»، و«لا أراكم الله مكروهاً بعده»، إذ بدل أن يكون الدعاء لأجل المتوفى يجيء الدعاء عليه، وكان يقول إنه ليس من طبيعتنا البحث والتعمق في الأمور، وهو يعتبر الفلسفة علماً، وأنها تشمل كل البشر، وأن المسلمين يشكلون نسبة من هؤلاء البشر، وأنها ليست مختصة بأحد، وبيّن أن موقف الإسلام من الفلسفة ليس موقف مصافاة وإنما مجافاة، فلم تكن الشريعة في رأيه في حرب شرسة مع الفلسفة، وإنما كانت في مرحلة جفاء.
وفور انتشار خبر الوفاة ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بكلمات العزاء والتعبير عن الخسارة الفادحة، التي تأتي بعد أيام قليلة من رحيل رمز آخر هو الناقد عابد خزندار، فكتب الدكتور عبدالسلام الوايل: «أحد الفضلاء الذين لهم حق على المجتمع، بعد أن بذل اهتمامه بما لا يُهتم به عادة كالنشاط الثقافي في بيته». وقال أحمد العريفي: «عرفته في مجلس الوالد وكان يتردد عليه. كان يتأنق غاية التأنق في حديثه ومعاملته وحركته وسكونه. أسكنه الله الجنة».
وكتب الدكتور حمزة المزيني: «رحم الله الدكتور راشد وتقبله في الصالحين. كان يؤمن برسالة العلم وتنوير الثقافة وكان لأحديته النصيب الأوفى منهما». أما الدكتور عبدالله الغذامي فكتب قائلاً: «اللهم تغمده برحمتك ورضوانك. أشهد له بمواقف عظيمة ونبيلة استخدم مقامه عند الدولة بمساعدة كثر وكثر وكثر من الناس». وذكر إبراهيم المديميغ أن صداقة ومودة جمعتهما «دامت أربعة عقود لا تملك إلا أن تنصت له عندما يتحدث بإدراك عن الثقافة والحضارة الإسلامية».
وقال الدكتور مهنا الحبيل: «حين يقال إنه الكريم المفضال وجه البذل والشفاعات فهي صفات حقيقية لا مبالغة. كان مؤسسة مروءة اكتنزت في فرد صب من إحسانها، على كل أركان وذوي الحاجة من أسرته وغيرهم، وشفاعاته متعددة في المشافي والأزمات المالية والسياسية، وسجل له التاريخ دوره في قرار إيواء المهاجرين السوريين بعد حماة. كان مدرسة في تجميع المختلفين للحوار في طرح الجسور بينهم، وفي إصراره على علاقاته مع كل طيف فكري له رأي يطرحه. من أسرار وخصوصيته التي أحسب والله حسيبه أن يجعل الله له فيها خيراً كثيراً، أن العزيز المضطر يجد في أبي بسام عزوته وسلوته، كم وارد على بيت متلعثم الحديث متعثر الخطى بأزمته، وجد في يمين أبي بسام وعزيمته التي منحها الله فرجاً لمحنته وكربته».
وقال الإعلامي علي الظفيري: «فقدت المملكة واحداً من أبرز وجوه الثقافة والفكر، رحم الله الدكتور راشد المبارك وغفر له، وخالص العزاء لأسرته ومحبيه في الداخل والخارج». وكذلك كتب الإعلامي عبدالله المديفر: «حزنت بسماع خبر وفاة القامة راشد المبارك. تعلمت منه الكثير في صالونه الثقافي بالرياض، ورحيله خسارة لنا جميعاً».
وأوضح المفكر الإسلامي محمد المحفوظ لـ«الحياة» أن الراحل، «يعد من العلامات الثقافية البارزة على المستويين الوطني والعربي»، مشدداً على أن رحيله يشكل خسارة حقيقية للثقافة والمعرفة. وأشار إلى أن أهم ما يميز العطاء الثقافي والفكري للدكتور المبارك، «هو أنه مزج بين الصرامة العلمية والرشاقة الأدبية. وهو بهذا دمج بين تخصصه العلمي وشاعريته واهتمامه الأدبي الرفيع»، مضيفاً أن أحديته «تعتبر من أهم المنتديات الثقافية والأدبية الأهلية التي كان لها الدور البارز، في صياغة الوعي الوطني وتفصيح الأسئلة الوطنية الأساسية». ودعا المحفوظ في ختام كلمته المؤسسات الثقافية الرسمية إلى «الاهتمام بتراث الدكتور المبارك من خلال طباعة الأعمال الكاملة، وطباعة كل الندوات التي أقامها الدكتور في أحديته».
وأشار الباحث عادل الهذلول إلى أن الدكتور راشد المبارك، «كان من أوائل المؤسسين للصوالين الأدبية والثقافية الأسبوعية في المنطقة عبر أحديته الشهيرة». وقال: «زرته ذات يوم في مجلسه باجتماع عائلي تحول فجأة إلى مساجلات أدبية، ارتقت بمستوى الحضور واضطررنا لتمديد وقت زيارته حتى خجلنا أن نُثقل عليه فخرجنا». ولفت إلى أن الراحل بتأسيسه لمجلس آل المبارك «دفع بالعوائل الأحسائية الأخرى أن يحذو حذوه ويرتقوا بالحوارات والنقاشات، ويدعم مسيرة التعايش التي عُرِف بها أهل الأحساء منذ القدم»، مؤكداً أن رحيله خسارة واضحة للمشهد الأدبي والثقافي، «وحسبنا أنه أسس للمجال التداولي الأدبي الأسبوعي كي ندعم هذا الاتجاه». ووصف الدكتور يحيى عمر آل زايد الراحل بأنه «فقيد العلم والأدب»، قائلاً كان ممن جمع في حياته مجالين، وكان يؤمن أن التخصص شيء منفصل عن الحياة العامة، فلا يجب أن ندمج حياتنا بتخصصنا، احترف الأدب واقتحم الكيمياء. وبيّن أن رحيله «هزة فكرية» بمقياس من عاصرة ومن تابعه، مشيراً إلى أنه «في وقتنا هذا الأدب هو المجال الوحيد الذي لا يموت، والذي يصبح الكل فيه سواسية في محبتهم له ولو اختلفت الأعمار، قد يجهله الكثير في هذا الزمن ولكن لا يجهله من عشق الفن». وعدد بعضاً من سماته بقوله: «فنان بروحه، بعلمه، بقلمه، وكما أعطانا قراءة في دفاتره المهجورة خلف لنا قراءة». واستذكر آل زايد ذكرياته: «لا زلت أذكر كتابه (شعر نزار بين احتباسين)، مدخلي لعوالمه المبهجة سنين وحدتي الأدبية»، منوهاً بأن رحيله يعني رحيل آخر عناقيد الفكر، ومتسائلاً: متى سننتبه لثروتنا الفكرية والعلمية والأدبية؟ «تركنا بين احتباسين، زمن ماضٍ جميل وزمن حاضر عجيب!». واختتم قائلاً: «رحمه الله، لم يكن كاتباً فكرياً في قضايا لا تهم سوى الورق بل كان مفكراً في قضايا أمة! فمن لا يزال يبكي أمته، عاش يحاول خلق التوازن عبر مؤلفاته وصالون الأحد كل أسبوع بمنزله، وقد يتحقق بعد وفاته بجيل تحت يده تفتح»، مردداً: «لتنكس الأقلام قليلاً، بأمر من علمنا القلم والعلم».
وقال الكاتب محمد عزيز العرفج أن الراحل «فتح بيته للمثقفين والمفكرين والأدباء، وعرف مجلسه بأحدية المبارك». كانت تلك الأحدية تجمع الأطياف الثقافية كافة وفي شتى العلوم والمناهل، «وكانت تجدول كل فصل بالمحاضرات التي تقام، وتعقبها مداخلات تنتهي في منتصف الليل، وكانت من أهم الأماسي التي أذكرها أمسية عن تاريخ سبأ وأمسية عن الأخوين رحباني والسيدة فيروز، وكان هناك كثير من الأسماء المعروفة التي تحضر تلك الأحديات، وبعضهم يكاد يكون مقاطعاً جميع الفعاليات الثقافية ما عدا الأحدية، وبعضهم نلتقي بهم للمرة الأولى هناك». وأوضح العرفج أن للراحل «العديد من الدواوين والمؤلفات والأبحاث عن المتنبي ونزار قباني والكون والمجتمع والفلسفة وغيرها، وكان يمكث سنوات طوال في دراسة هذا المنهج أو ذاك قبل أن يؤلف كتاباً عنه. وكنت وزملائي بعد المحاضرات وانتهاء المداخلات قبل الذهاب إلى العشاء الذي يدعونا إليه نقف لنناقشه في هذه المسألة وتلك، وكان قوياً لا يكل ولا يمل من تزويدنا بمعلومة أو برأي. رحم الله المفكر والأديب راشد المبارك رحمة واسعة».
وقال الكاتب منصور الزغيبي إن أصعب أنواع المشاعر «هي مشاعر الحزن والتأثر، خصوصاً حينما تكون بمناسبة رحيل إنسان مثل العالم النبيل راشد المبارك، فهو بكل ما تعنيه الكلمة من معنى «إنسان استثنائي» وطني غيور، يملك كاريزما نادراً من يتصف بها، فهو موسوعي، قارئ متمكن للفلسفة، ومفكر كبير، وشاعر وأديب»، مشيراً إلى أن الدكتور راشد المبارك «كان صاحب طرح مستنير ومشرق ومختلف كثير عما يتم طرحه بالساحة، فهو كان رحمه الله يقظاً وواعياً للواقع وظروفه ووصاحب رؤية متزنة حول الكثير من الأحداث، فهو إنسان موضوعي جداً، تحكمه المبادئ والقيم، ومن خالطه أو درس عليه رأى دقة ذلك في مواقفه وتعاملاته مع الجميع. له مواقف عظيمة التأثير في مستوى الوطن العربي عند أصحاب القرار والنخب، كذلك فهو من ضمن مجموعة من العلماء الذين حاولوا الإصلاح أثناء حرب العراق مع إيران، وغيرها من المواقف التي تحدث في الوطن العربي، كانت له جهود في الظل مؤثرة وسبق أن قرأت بعضها واطلعت عليها عن قرب. خلاصة القول، هو إنسان استثنائي تتنافس لديه دلالة الالتزام مع السخاء والاستقامة».
المصدر: الحياة