خاص لـ هات بوست:
كل عام وأنتم بخير، مضى رمضان، وجاء العيد ومضى.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، وحسن الظن به سبحانه يقتضي أن نثق بقبوله وهو الغفور الرحيم ونحن خلقه الضعفاء، أو لنقل أبناؤه المشاكسون، نعود إليه فنلبي أوامره ونمتنع عن الطعام والشراب تقرباً منه، وندعوه متضرعين أن يغفر لنا زلاتنا وأخطاءنا، وهو العفو الكريم.
ومن ينظر إلى أعداد القائمين العاكفين الركع السجود في ليلة القدر، وفي صلاة العيد، في أقاصي الأرض، ينبهر بهذا الورع والتقى، ويستغرب كيف للشرور أن تنتشر بيننا؟ من إذاً يهمل أبواه فلا يسأل عنهما؟ من يأكل مال أيتام أخيه؟ من يضرب ابنته؟ من يخون زوجته؟ من يعتدي؟ من يسرق؟ من يغتصب؟ من يشتكي على جاره؟ من يغش؟ من يرتشي؟ من يشهد زوراً؟ من يقتل؟ من يتقول على الله؟ من يستغل حاجة الناس فيقرضهم بالربا؟
هل ننهي صلواتنا وصيامنا ثم ننطلق وندع ضمائرنا تغرق في سباتها حتى موسم قادم؟ أم أن أؤلئك من شعروا بذنوبهم فجاؤوا إلى الله يطلبون المغفرة؟
أم هل نفهم ديننا بشكل مجتزأ؟ أو كما قيل:
“خير هذا وشر ذاك فإذا الله قد غفر”؟
يبدو أن الشعائر بالنسبة لنا هي الحل، نفعل ما نريد ثم نعود آملين أن يتوب الله علينا، ونعيد الكرة أو نتغاضى قليلاً ونبحث عن فتوى تبرر أعمالنا.
على أن الرسالة واضحة، تتألف من شقين: علاقة مع الله تتمثل بالإيمان به وذكره والدعاء له والتقرب إليه (صلاة)، وعلاقة مع الناس قوامها التزام المحرمات كصراط مستقيم لا نتجاوزه، ومن ثم العمل الصالح (زكاة).
والعمل الصالح لا حدود له، ونحن في بلاد الشام لطالما تداولنا مصطلح “زكاتك”، ابتداءً من “ناولني هذا القلم زكاتك”، إلى “ادفع جزء من أموالك لمحتاج”، مروراً بكل ما هو مساعدة “زكاتك”.
هكذا أنظر إلى ديننا بكل بساطة، لا يحتاج لتفاسير وموسوعات وكتب، ولذلك سمي دين الفطرة، فلم يطلب الله منا المستحيل، ولذلك أيضاً وعدنا برحمته التي وسعت كل شيء، وبأنه {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر53)
لكن من يريدون أن يكرّهوا العباد بالدين كثر، وهم موجودون على مر العصور، يسيئون لله ولرسوله، ويعتاشون على اختراع قصص فارغة تجعل الناس في خوف دائم، لا هم يهنأون بالحياة الدنيا ولا يأملون بالجنة في الآخرة.
يحضرني هنا ما حدث في مدينة ما مؤخراً، إذ اصطحب الأب ابنه الصغير إلى صلاة العيد، وهو واثق أن الطفل سيحب هذه التجربة، وما أن انتهت الخطبة حتى مر رجل يجمع من المصلين نقوداً للمحتاجين، فسارع الطفل إلى مد يده في جيبه الصغير وأخرج “العيدية” ووضعها في الكيس.
أول ما يتبادر إلى ذهنك أن الرجل لا بد قد شكره جزيلاً وأثنى عليه وأكبر فيه العطاء، لكن ما حدث هو أنه تلقى توبيخاً من حامل الكيس كي لا يكرر فعلته، إذ عليه استخدام يده اليمنى لا اليسرى، فالأفعال الحسنة تنجز باليمين.
لا أعرف وقع الحدث في نفس الطفل، لكن أتخيل أني في مكانه سألوم نفسي وسأتمنى لو أني احتفظت بالعيدية لأشتري بها ألعاباً، وربما سأكره هذا المسجد، وقد أتجاوزه إلى أن أكره العيد، وسأحاول ألا أذهب بخيالي لأبعد من ذلك، فالأهل لا بد سيشرحون للطفل أن المشكلة في هذا الشخص بحد ذاته ليس إلا، ولن يقولوا له أن أكثر من ثمانين بالمائة من “المسلمين” يهمهم استخدام اليد اليمنى أكثر من الصدقة التي قدمت، ويصدقون أن الله تعالى خالق هذا الكون العظيم سيحاسب الأعسر وأن عليك نبذ جانبك الأيسر كله، فاليد اليمنى أفضل من اليسرى والرئة اليمنى والكلية اليمنى والساق اليمنى كذلك.
ولا ننسى ما حصل في السودان منذ فترة، حين فصل طفل من المدرسة بحجة أنه يسأل أسئلة ممنوعة من قبيل “لماذا يأكل الشيطان مع الطفل الأعسر؟” والأرجح أن الفصل قد تم لأن المعلمة وجدت تمرداً لدى الطفل من خلال “عسارته”.
وإذ يبدو الأمر حدثاً فردياً صغيراً لا يمكن تعميمه لوسم الفكرة بمجملها، لكن بنظرة عامة لا بد لنا من الاعتراف أن ثمة أمور كثيرة اختلطت علينا، فلم نعد نميز بين ديننا الإسلام كرسالة رحمة عالمية ختمت الرسالات، وبين قشور مهترئة لا تغني ولا تسمن من جوع، لا تعدو في معظمها كونها ترهات، تمسكنا بها وابتعدنا شيئاً فشيئاً عن الأساس، وليس الموضوع هو اليمين والشمال، إنما ما هو منطقي وغير منطقي في رؤيتنا للدين ككل.
ليتنا نعيد لديننا بساطته وألقه، ونبتعد به عما شوهه، فهو دين عظيم جدير بأن يكون دين رحمة للعالمين، حاولوا “زكاتكم”.