كاتب و أكاديمي متخصص في الإعلام الجديد
عندما تمشي وسط الجموع في لندن أو باريس أو دبي أو أي “مدينة دولية” – إن صح التعبير – تكتشف أن الهوية الوطنية تفقد معناها، فالكل تتلبسه الثقافة العالمية في مظهره وتصرفاته، لتصبح الهوية خاصة بالشخص نفسه بناء على مبادئه وأفكاره واحتياجاته، بينما الشركات والمحلات التجارية تتلمس تلك الاحتياجات لتصمم كل ما لديها بناء على طلب الجماهير القادمة من كل صوب.
في عام 1999، حضرت بالصدفة اجتماعا لشركات الطيران في العاصمة الأميركية واشنطن لوضع استراتيجية تلك الشركات على المدى الطويل، وكان الاتفاق بألا تتم صناعة طائرات أسرع أو أذكى أو أكثر أمانا بل التركيز فقط على جعل السفر أقل تكلفة، والتركيز على توفير التكاليف لزيادة عدد المسافرين. هذا ما يبدو أنه حصل فعلا، وهو عامل من عوامل عديدة ساهمت في زيادة رحلات السفر في حياة الناس خلال السنوات العشر الأخيرة مقارنة بالسابق، أيا كان هدف تلك الرحلات.
بالنسبة للمفكر العظيم إدوارد سعيد فالسفر والترحال والهجرات المؤقتة ستزداد في حياة الشعوب حتى تصبح العامل الأكبر في تكوين الثقافات. المفكر الراحل له نظرية مميزة يحلل فيها كيف سيؤثر سعي الناس للسفر والاستقرار أينما طاب لهم لأسباب العمل أو أي أسباب أخرى على المنظومات الفكرية والثقافية والاجتماعية وحتى السياسية. هذا ما نراه اليوم بشكل متزايد في مدن معينة أطلقت عليها في بداية المقال “المدن العالمية”، وعدد هذه المدن في تزايد مستمر.
خلال الأسبوع الماضي شاركت في فعاليات اليوم العالمي للغة العربية في اليونسكو بباريس. كان الحدث له تأثير عاطفي لأنه محاولة لمواجهة مشكلة العرب الكبرى مع لغتهم التي أهملوها عبر العقود.
بالمناسبة كان هناك عرب من دول عديدة يتمكنون من التفاهم عبر القواسم المشتركة بين لهجاتهم المشتقة من اللغة الأم، ولكنك بمجرد أن تخطو خارج اليونسكو إلى شوارع باريس، المدينة شديدة التنوع، تبقى اللغة الفرنسية هي أسلوب التفاهم. يمكنك طبعا أن تجرب نفسك مع الإنجليزية التي يتحدثها الجميع، أو حتى العربية لكثرة العرب في باريس، ولكنك دائما في وضع نشاز. اللغة الفرنسية هي العماد الوحيد للهوية الفرنسية رغم تعدد الأعراق والجنسيات وهجوم العولمة على باريس.
بكلمات أخرى، في ظل زحف رمال العولمة على الشعوب في كل مكان، تبقى اللغة هي المحور الأساسي للهوية، بدون اللغة تضمحل الهوية إلى حد الانقراض. نحن عرب، ما دمنا نتحدث العربية، وعندما نخسر ذلك (وهو ما يحصل اليوم تدريجيا) فنحن نصبح كيانا هلاميا ضائعا يبحث عن نفسه في ردهات ودهاليز الشعوب الأخرى.
لقد أسهمت الشبكات الاجتماعية في توسيع الهوة بيننا وبين اللغة العربية. قبل الإنترنت، كانت الناس يقرؤون فقط، ومن يكتب هم النخبة الذين يتقنون العربية الفصحى. الإنترنت سمح للجميع أن يكتب، بمن فيهم غير المتعلمين، والشبكات الاجتماعية بطبيعتها تحرض على الجاذبية والسهولة في الكتابة، وهذا ساهم لانتشار سريع للهحات العامية وتحويلها إلى حروف مكتوبة. الإنترنت أيضا ساهم في المزيد من الإقبال على الإنجليزية لدى الجيل الجديد، والنتيجة انحلال أسرع للغة العربية (وبالتالي هويتنا العربية). بالمقابل فالشبكات الاجتماعية ستسهل علاج المشكلة بشكل أسرع وأكثر فعالية لو كان هناك عزم حقيقي لدينا لعلاج المشكلة.
لقد بقي سؤال الهوية العربية وكيفية المحافظة عليها سؤالا نظريا لا يرتبط بأي خطط عملية تحاول معالجة المشكلات والاستعداد لآثار العولمة على الهوية وعلى الأجيال الجديدة. في السنوات السبع الأخيرة زاد معدل السفر في حياتي حتى صرت أسافر حوالي 45 رحلة سنويا. خلال ذلك السفر عبر المطارات الدولية، أقابل كثيرا من الناس الذين تختصر قصصهم الحقيقة التي ذكرتها في مطلع هذا المقال: السفر يزداد تدريجيا في حياة الناس بسبب سهولته وقلة تكاليفه، وهذا يعني أن تنبؤ إدوارد سعيد في طريقه للتحقق. ما يبقى للناس فقط هو ما يؤمنون به عميقا، يرحل معهم أينما رحلوا، وإذا كان الإيمان باللغة العربية واحد من تلك المبادئ، فإن لغتنا سترحل معنا أينما رحلنا.
ولعل من مفارقات الحديث عن باريس، أن الفرنسيين اشتهروا بعاطفتهم نحو لغتهم حتى ظهر ما يسمى بالوطنية اللغوية، بحيث صار نشر اللغة الفرنسية أمرا مرتبطا بحب فرنسا والمواطنة الصالحة.
العرب كانوا أسبق لذلك يوما، حيث كان نشر اللغة العربية مرتبطا بالفتوحات الإسلامية حتى إن عددا كبيرا من علماء اللغة العربية وعلى رأسهم سيبويه ليسوا من العرب. اليوم تحولت العربية للغة الأكثر إهمالا رغم تاريخها العظيم بسبب تخلف وضعف العرب ثقافيا وإبداعيا.
أحيانا، اللغة تصبح هي الوطن، وفقدانها يعني باختصار الهجرة خارج الوطن!
المصدر: الوطن أون لاين