تُعد وسائل الإقناع مكونات جوهرية في بناء الخطاب الحجاجي، إذ تُسهم في تحقيق الغاية التواصلية المتمثلة في التأثير في المتلقي وتوجيهه نحو تبنّي موقف معين أو إقناع متلقيه بفحوى خطابه، أو التأثير فيهم وتغيير رؤاهم الفكرية تجاه موقف ما؛ لذا يعد الحجاج مكونًا أصيلًا في بنية اللغة، إذ يسري فيها سريانًا طبيعيًا، ليُشكل بذلك جزءًا لا يتجزأ من الخطاب، خصوصًا حين يتعلق الأمر بالنصوص التي تُبنى لغرض الإقناع. ويتميز النص الحجاجي بكثافة الحجج التي تتفاعل وتتقابل داخله، في تنافس دلالي تتباين فيه درجات القوة والضعف بحسب فعاليتها في تحقيق مقصد الإقناع. فالحجج تتراوح بين ما هو قاطع وجازم، وما هو اعتيادي محدود التأثير.
ومن البديهي أن الحجة الأقوى تحوز قدرة أكبر على التأثير، وتحقق الغاية التواصلية المرجوة من توظيفها في موضعها الخطابي المناسب. ويشير الباحثون إلى أن القيمة الحجاجية للقول لا تُختزل في محتواه المعرفي أو المعلوماتي فقط، بل تتجاوز ذلك إلى عناصر لغوية وشكلية، كالتراكيب والصيغ والأدوات اللغوية، التي تُضفي على القول بُعدًا توجيهيًا حجاجيًا، يُسهم في توجيه المتلقي نحو تأويل معين أو موقف مقصود. فالإقناع: هو تحقق الأهداف التي يرجو المرسِل إيصالها من خلال خطابه محدثا تغييرا في موقف المرسل إليه الفكري والعاطفي(1).
وسميت بالإقناعية لما ترمي إليه من خلال أهدافها أو هدفها الرئيس : إقناع المخاطَب أو المرسل إليه بفحوى رسالة الخطيب أو المرسِل، ولعل هذه الاستراتيجية نفعية بالدرجة الأولى، وهي تتفاوت بتفاوت درجات الخطاب، ولهذا عُد الحجاج من أهم مكونات الخطاب البشري، إذ يمثّل استراتيجية لغوية ومعرفية تهدف إلى الإقناع والتأثير في المتلقي، وفي ظل التحولات التي عرفتها الدراسات اللسانية والتداولية، لم يعد الحجاج مجرد بنية لغوية خاضعة لسلطة المتكلم، بل بات يتأسس على ديناميكية تفاعلية تتداخل فيها سلطة اللغة بوصفها أداة للتأثير، تُوظّف بواسطة استراتيجيات بلاغية مثل التكرار، والاستعارة، والتقابل، مع وعي المتلقي وحريته التأويلية.
من هذا المنطلق أضحت اللغة أداة للهيمنة الرمزية، خاصة عندما ترتبط بالسياقات المتنوعة كالسياسية أو الإيديولوجية، فالمتكلم (الحاذق) يمتلك من الآليات ما يسمح له بإقناع المتلقي، وتوجيهه وفق مسارات محددة.وعندما تستعرض اللغة حجاجيتها بكل عنف، متوسلةً بالتصورات الذهنية، والأبعاد السياقية، والتدخلات الإشارية، فإنها تُفعّل آلياتها التداولية لتُعيد تشكيل بنية الخطاب، لا بهدف الإقناع فحسب، بل لفرض تأويل بعينه، وإنتاج تأثير قسري على المتلقي، مستثمرةً في ذلك كلّ ما تتيحه لها بنيتها الرمزية من سلطات تمثيلية وتأويلية
غير أنه مع تطور آليات الإدراك والخلفيات الثقافية والمجتمعية أصبحت (طواعية المتلقي) حدثاً من الماضي، إذ لم يعد كائناً سلبياً يتلقى الخطاب كما هو، بل بات فاعلاً تأويلياً قادراً على المقاومة التأثيرية، أو على الأقل تفكيك الخطاب و(صهره) في بوتقة (التجاهل).
ولهذا تتحدد طواعية المتلقي من خلال خلفيته الثقافية، ووعيه الإيديولوجي، وخبرته التفسيرية، ومن -هنا- فإن تأثير الخطاب الحجاجي ربما يكون متفاوتاً، وقد يُفضي إلى نتائج معاكسة، مما يُبرز حدود سلطة اللغة (أداة التأثير والتوجيه) أمام حرية المتلقي، والموضح لتلك الفكرة (الحجاجية) أن الفعل الحجاجي-كما هو مقرر- يتفاعل مع بنيات ذهنية وسياقات مختلفة اجتماعية ونفسية تشكّل أفق التلقي، وربما حالت دون تحقيق مقاصده الإقناعية، ومن-هنا- فإن نجاح الخطاب الحجاجي يظل رهيناً بمدى انسجامه مع توقع المتلقي، وتصوراته المسبقة، إذ (منطقياً) لا يمكن صياغة خطاب حجاجي بأدلة واضحة، وتجليات (عقلية)، وترقب للتقبل دون سبق إعداد وتصور لحواجز التأويل التي ربما يقيمها المتلقي، خاصة ذلك المتلقي الواعي، المحاط بقناعات ثقافية أو إيديولوجية.
وأشير -هنا- إلى أن الحجاج لا ينحصر في مجال استعمالي بعينه، إذ تتعدد مجالات توظيفه بتعدد الحقول المعرفية التي تستثمر آلياته وأساليبه بما يخدم مقارباتها الخاصة. إلا أن اللغة هي التي منحته خصائص محددة جعلته خطابًا حجاجيًا بلاغيًا بامتياز، يُبنى بأساليب إقناعية ملائمة.
([1]) عبد الهادي بن ظافر الشهري، استراتيجيات الخطاب، مقاربة لغوية، دار الكتاب الجديدة المتحدة، ليبيا، ط1، 2003، ص444.