«سكن.. سكن».. سخرية مريرة من مجتمع المدينة المأزوم

منوعات

شهدت الليلة الخامسة من مهرجان كلباء للمسرحيات القصيرة تقديم عرض بعنوان «سكن.. سكن، مهما كلف الثمن»، تأليف الكاتب الإيطالي كارلو مانزوني «1909 – 1975» إخراج أنس عبدالله، وتتناول بسخرية لاذعة واقع مجتمع المدينة المعاصرة التي أصبحت تضيق بسكّانها، وزوارها، فلا يجدون مأوى يؤويهم، ويستريحون من عناء يومهم.

يدخل المدينة زوجان قادمان من سفر، ويبحثان عن فندق يؤويهما حتى الصباح، وينتقلان من فندق لآخر من دون جدوى، فكل الفنادق مملوءة، أخيراً يدخلان مبنى ظنا أنه فندق، ويسألان ويلتقيان رجلاً وامرأة غريبي الأطوار، يسألانهما عن الحارس، فتجيبهما المرأة أنها لا تعرف كرة القدم ولا تتابعها، وبعد نقاش كوميدي، يكتشفان أنهما في مصحة لعلاج المجانين، ولا يلبث أن يأتي ممرض يبدو أنه هو الآخر أصيب بالجنون، فيبدأ بتقديم العلاج للمرضى، ثم يأخذ الرجل ينادي على الرجل المجنون بأن يستعد للدفن، ويضعه في شبه تابوت، ويدفعه إلى الأمام وتتبعهما المجنونة، وقبل أن يختفي الممرض يطلب منه الزوجان أن يستدعي لهما مدير المستشفى.

وفي انتظار مجيء المدير، يقرر الزوجان أنه لا بد من الحصول على مأوى ولو لليلة واحدة، في تلك المصحة، وتقرر المرأة أن الوسيلة الوحيدة لذلك هو أن يلعب أحدهما دور مجنون، حتى يقبل مدير الفندق بإيوائهما، وتقول للزوج «إنه هو الأنسب لذلك الدور، لأنها كانت تراه في مرات كثيرة يتصرف تصرفات جنونية، حتى إنها في بعض الأحيان ترتاب في أمره»، ويحتج الرجل على ذلك، لكنها تقنعه بضرورة القيام بالدور، ثم يبدآن بالبحث عن الشخصية التي سيقوم بدورها.

يبدآن أولاً بشخصية مجنون عادي، لكنه يفشل في تقمص الشخصية، ثم تقترح عليه القيام بدور شخصية تاريخية يتوهم أنه تلك الشخصية، وذلك أيسر لأن صفات الشخصيات التاريخية معروفة، ويمكن تقليدها، ويبدأ بتقليد بعض الشخصيات، مثل هاملت، وموسوليني، وهتلر، ونابليون، ويفشل في تقليد كل تلك الشخصيات تباعاً، وبينما كان الزوج يمتطي حقيبته، ويضع على رأسه إكليلاً من القش، محاولاً تقليد يوليوس قيصر على حصانه، وهو يتأهب لمعركته الأخيرة، يدخل مدير المستشفى، فيسألهما عما يقومان به، فتأخذ الزوجة في شرح الأمر له، قائلة، إنه يوليوس قيصر يتأهب لعبور نهر الروبيكون.

ويسألها الطبيب عما تعنيه الحقيبة، فترد بأنه حصان قيصر، وينتبه المدير إلى أنها تعطي زوجها الأوامر كي يواصل تقليد قيصر، فيحثه على تنفيذ أوامرها، بينما يشير إلى الممرض المرافق له أن يستدعي حراس المصحة، فيدخل رجلان، يشير لهما إلى الزوجة، فيمسكان بها، فتفاجأ وتصيح بهم لست أنا المجنونة، «لست أنا المجنونة..» بينما يقف زوجها مشدوهاً لما يحصل، ويتغير المشهد، فإذا بمجموعة المجانين الذين بدأ بهم العرض يجلسون على كنبة طويلة وهم بزي المرضى وبينهم الزوجان بزي المرضى كذلك، وفي أثناء ذلك يدخل شاب وشابة يحملان حقائبهما، ويتفحصان المكان بحثا عن مأوى، وتنتهي المسرحية. قدم أنس عبد الله عرضاً محكماً تكاملت فيه جميع العناصر السينوغرافية من مؤثرات صوتية، وموسيقى، وإضاءة، وتلوين وشاشة عرض، وأزياء، وغير ذلك، وكان كل عنصر موظفاً بمقياس الدور الذي يؤديه من دون زيادة، وكان الدور الأكبر للممثلين الذين تألق أغلبهم، وأدوا أدوارهم بحرفية وحماس، وقد ظل إيقاع العرض مشدوداً حتى النهاية، ولم يشهد أخطاء لغوية تذكر، واستمتع الجمهور بأجواء الكوميديا التي سادته، واستطاع أن يؤدي رسالته التي مضمونها أننا نعيش في زمن الهجرة واللجوء.. زمن انعدام المأوى واضطراب الهوية لحد اليأس والجنون.

ويشهد مهرجان الشارقة للمسرحيات القصيرة أنشطة موازية عدة، تعمل على بث الثقافة المسرحية، وتحفيز الفنانين الشباب للعمل واستقطاب الجمهور، ومن أهم تلك الأنشطة الندوات التطبيقية التي تعقب العروض كل ليلة، ويجري فيها تحليل ومناقشة عناصر كل عرض، ومكامن القوة والضعف فيه من قبل مجموعة من المختصين في مجال المسرح، ويحضر النقاش جمهور عريض من متابعي المسرح، وقد عمدت إدارة المسرح هذه السنة إلى تطوير الندوات التطبيقية باستضافة أكاديميين للتعقيب على العروض.

فحين تبدأ الجلسة يعطى للمعقب ربع ساعة للإضاءة على نص المسرحية وفضائه التاريخي، وعلى العرض، وعناصره، ومكامن الجودة فيه، والمآخذ عليه، ثم يفتح النقاش للأكاديميين والمعقبين وهم: الدكتور غانم السامرائي رئيس قسم الأدب الإنجليزي في جامعة الشارقة، والدكتور صديق جوهر أستاذ الأدب الإنجليزي في جامعة العين، ومصطفى آدم أستاذ اللغة الإنجليزية والأدب بأكاديمية العلوم الشرطية في الشارقة، وقد شكلت تعقيباتهم إنارة مستفيضة على العروض، وربطتها بسياقات النصوص التي أخذت عنها.

من الأنشطة المصاحبة أيضاً مسابقتا «أحسن ممثل»، و«أحسن صورة فوتوغرافية»، حيث يتولى الجمهور اختيار الفائزين في هاتين المسابقتين، ما يزيد من حماس الممثلين للعمل، والمصورين كذلك، ويستقطب الجمهور للمشاركة، وقد ظهرت في المهرجان مواهب تمثيلية جيدة، حظيت بإعجاب الجمهور.

تقام الأنشطة في كل ليلة تحت رعاية إحدى الدوائر الحكومية في مدينة كلباء، مثل المجلس البلدي، وفرع دائرة الشؤون الاقتصادية، وفرع دائرة القضاء، وإدارة شرطة كلباء، وغيرها من المؤسسات، ما يجعل المتابعة والحضور الرسمي متواجداً كل ليلة، بما يحقق تفاعلاً بين الجمهور والهيئات الرسمية.

ولم يغب الفنانون المسرحيون الإماراتيون عن المهرجان، فشهدت لياليه زيارات لعدد من الفنانين الذين شاركوا في أنشطته، سواء النقاشات الجارية في الندوة التطبيقية، أو تكريم الفائزين بالجوائز اليومية، وشكل حضورهم احتفاء وتشجيعاً للمواهب الجديدة، ومن الذين زاروا المهرجان: الدكتور حبيب غلوم، أحمد الجسمي، محمد العامري، حميد سمبيج، إبراهيم سالم، محمد حاجي، الدكتور محمد يوسف، فيصل الدرمكي، عبد الله مسعود، كما حضر ضيوف مسرحيون من المغرب وتونس ومصر والعراق والجزائر، وقد أضافت مناقشاتهم إلى الندوات التطبيقية ثراء وحيوية.

المصدر: الخليج