هل ستمثل التصريحات الأخيرة الصادرة عن الرئاسة التركية تحولاً في السلوك والمنهج السياسي القائم الذي جلب الكثير من المتاعب لتركيا وأسهم في تأزيم علاقاتها مع العالم؟
يفترض أن عقداً كاملاً من الزمن سيكون كفيلاً بإعادة السياسة التركية لمراجعة تجربتها في المنطقة تحديداً.
عشر سنوات من التيه التركي والتورط في مشاريع توسعية والتدخل غير المسؤول في شؤون دول ذات سيادة واستقلال، وتقديم لغة ذات مسحة أيديولوجية لا تعكس القيم السياسية التركية العلمانية.
يبدو أن تلك التجربة انتهت ومن الواضح أن كل الخسائر والأزمات والتحديات التي تواجهها أنقرة اليوم، ليست إلا نتيجة لتلك المغامرات والمواقف المتهورة طيلة العقد الماضي.
منذ تأسس حزب العدالة والتنمية وهو يقدم خطاباً مجانباً للشخصية العلمانية التركية التي مثلت نموذجاً مدنياً كان الأقدر على حماية تركيا وتنمية مقدراتها والتفاعل الإيجابي مع محيطها الأوروبي ومن محيطها الشرق أوسطي.
تركيا التي تمثل الوليد الوطني من التجربة الإمبراطورية، بعد سقوط وانتهاء عصر الإمبراطوريات والدول التوسعية والدخول إلى زمن الدولة الوطنية، لقد مثل ذلك التحول تأسيساً لكيان جديد كانت له تحدياته ومواجهاته في المنطقة والعالم، لكنها في الأغلب كانت تحديات ومواجهات الدولة التي تحمي مصالحها وتبني أفقها الوطني والمدني. لكن التحول في الخطاب وفي الرؤية بدأ منذ وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة، وتجلى في أكثر مظاهره ومواقفه منذ عام 2011م.
تورط النظام التركي في ذلك المشروع المدمر، وكانت ورطته من منطلق كارثي للغاية؛ منطلق الدولة التوسعية العقائدية التي تريد أن تجعل من الأيديولوجيا أداة للهيمنة والانتماء والتوسع. تخلى النظام غالباً عن القيم العلمانية التركية وأراد أن يكون نسخة سنية للنظام الإيراني الطائفي التوسعي. وشهدت المنطقة مغامرات واسعة وتدخلات سافرة من قبل النظام التركي وحروباً في الشمال السوري والعراقي، ودوراً في تبني ودعم الثورات وبات الحزب الحاكم مرجعية ومنطلقاً للإسلام السياسي والحاضن لأحزاب وجماعات الإخوان المسلمين.
كانت الإدارة الأمريكية آنذاك اللاعب الأسوأ الذي منح غطاءً سياسياً لتلك الفوضى فيما تورطت أيضاً أنظمة في المنطقة في ذلك المشروع ومثلت الداعم المالي الأول، كانت ورطة النظام التركي هي الأسوأ. لقد تورط النظام عبر ثلاثة محاور: العسكري والسياسي والأيديولوجي، وهو ما أدخله في صراع ومواجهات مع مختلف القوى في المنطقة والعالم.
بلا إستراتيجية واضحة ذهب النظام التركي إلى أبعد مدى في تبني الثورات والتغيير في المنطقة، وقدمت الرئاسة التركية ما يمكن وصفه بأسوأ الخطابات السياسية وأكثرها تهوراً واندفاعاً، وتم إقحام تركيا في صراعات وأزمات لم تكن في حاجة إليها.
فتح النظام التركي باب العداء السافر مع مصر، بكل ما تمثله من ثقل وأهمية ودور محوري في الإقليم، لقد مثلت ثورة الثلاثين من يونيو التي أنهت فترة الإخوان المسلمين، الحدث الذي زلزل الحلم الأردوغاني التوسعي، ودون أدنى رؤية سياسية واضحة أدخل النظام تركيا في عداء سافر مع مصر. وبالتالي مع محور الاستقرار في المنطقة، المحور الذي تقوده السعودية والذي اكتمل واقعاً في المنطقة بعد أن اضطلع بدور مواجهة المشروع التخريبي المدمر ووقف لحماية الدولة الوطنية في المنطقة.
التعامل التركي مع القضية السورية صنع مساراً جديداً لأزمات النظام ونموذجاً للأداء المنفلت الذي عمق من أزمات الدولة وجعلها الطرف الخاسر في المعركة الأكثر تعقيداً.
منذ عام 2015 شهدت تحركات النظام التركي محاولات واسعة لكسب ما يمكن كسبه من مغامرات الأعوام الخمسة السابقة، لكن ذلك أدى إلى تورط أكبر، في ليبيا وفي سوريا وفي العراق، إضافة إلى الأزمات المتفاقمة مع اليونان والمواقف غير الرشيدة تجاه دول الخليج.
إنها سنوات الضياع التركي والمرحلة الأسوأ في تاريخ علاقات أنقرة بالمنطقة.
امتطى النظام التركي الأحصنة الخاسرة وراهن على الجياد العرجاء، فانتهى العقد الماضي دون أن تحقق تركيا أي مكاسب سياسية أو اقتصادية.
الرهان على الجماعات في زمن الدولة الوطنية والرهان على المرتزقة وطموحات التوسع والتفكير الأيديولوجي والخطابية الفجة والتوظيف الاستخباراتي للإرهاب كلها أدوات خطرة حين تستخدمها الدولة، لأنها في هذه الحالة تخرج من منطقة وشخصية الدولة.
لنقارن اليوم كيف تبدو مصر بلداً مستقراً وفاعلاً إيجابياً في محيطك ومنشغلاً بالبناء والتنمية ومواجهة التحديات في مقابل تركيا وما تعيشه من أزمات لا حصر لها.
اليوم التصريحات الصادرة عن الرئاسة التركية إيجابية وجديدة وبعيدة عن الصراخ والعنتريات الجوفاء التي ظلت تلازم المواقف التركية من مصر، فهل تمثل هذه المواقف. وتحمل موقفاً جديداً يمكن أن يمثل بادرة إيجابية ستمثل فيما أو استمرت وتحولت إلى مشروع سياسي تركي؛ ستمثل خطوة لإعادة ترتيب العلاقات التركية مع كل المنطقة.
بإمكان تركيا أن تمثل الشريك الأمثل لكل دول المنطقة وأن تعزز حضورها الإقليمي لحفظ الأمن والاستقرار ودعم الدولة الوطنية والتخلي عن الأحلام والمشاريع التوسعية غير الواقعية، ولكي يحدث ذلك لابد من التخلص من أعباء ونتائج وتركات السنوات العشر الماضية والعودة لقيم تركيا العلمانية الوطنية، بعيداً عن تركيا الإخوانية العثمانية التوسعية.
المصدر: عكاظ