كاتب ومحلل سياسي- لندن
ربح فلاديمير بوتين أولمبياد سوتشي، لكنها كلّفته كثيراً: خسر في أوكرانيا. خسارة أكبر من المكاسب التي يظن أنه يراكمها الآن على جثث الآلاف من السوريين، وعلى انقاض العشرات من الحاضرات المدمّرة. قد يذهب في النهاية إلى انضاج تقسيم أوكرانيا، فالبذور موجودة، بل إنها ارتوت أخيراً من دماء قتلى «ميدان الاستقلال» في كييف، ولولا الوساطة والضغوط الأوروبية لما أمكن التوصل إلى اتفاق على تسوية الأزمة، ولكان استيلاء المعارضة على غرب البلاد تحوّل من خطوة احتجاجية إلى سيطرة على معظم الدولة.
فجأةً، وجدت روسيا نفسها، خلافاً للعادة وللتقاليد، «محرجة» بمشروع قرار إنساني لتعزيز إيصال المساعدات الطبية والغذائية إلى المناطق المحاصرة في سوريا، فوافقت عليه بعدما جرّدته من أي قيود إلزامية أو تلويح بعقوبات في حال الإخلال والتعويق. لكنها، انسجاماً مع إصرارها على إبقاء مجلس الأمن عاجزاً ومعطَّلاً، طلبت أن يُترك تنفيذ القرار للنظام السوري، وهو يعلم كما المجتمع الدولي يعلم ما يعنيه ذلك، إذ لا يمكن التعويل على مَن ذهب بعيداً في برهنة لاإنسانيته حتى في التعامل مع أنصاره، إلى حدّ أنه يرفض مبادلة نساء وأطفال مسجونين لديه بنساء وأطفال محتجزين لدى معارضيه.
انسلّ هذان التطوران إلى عمق الاستراتيجية البوتينية ليسلّطا الأضواء على أخطاء أصلية في المنطق الذي استندت إليه، وعلى مفهوم للقوة يطبّق بوسائل لم يعد عصر ما بعد الحرب الباردة ليستسيغها. فلا أسلوب حليف موسكو «فيكتور يانوكوفيتش» نجح في إقناع الأوكرانيين، ولا آلة القتل الحليفة استطاعت أن تسحق حراك السوريين أو تلغي إرادة التغيير. ما يعني أن لدى روسيا مشكلة سواء حين ترجّح السياسة في كييف أو حين تغلّب القوة العمياء في دمشق. إذ وجدت صعوبة في قبول كلمة «إدانة» لاستخدام البراميل المتفجّرة، وفضّلت «شجب»، لأن الإدانة قد تنطوي على بعد قانوني يمكن تفعيله لاحقاً، أما الشجب فلا يعني شيئاً، ما يشي عملياً بأن إسقاط البراميل على رؤوس المدنيين لا يزعجها.
كادت روسيا أن تصرخ «أنها المؤامرة»، فالأعداء استغلّوا انشغالها الأمني بتأمين الألعاب الأولمبية الشتوية وإحباط أي عمل إرهابي محتمل ليلووا ذراعها في أوكرانيا كما في مفاوضات جنيف السورية. فهنا حُمّلت مسؤولية الفشل وطُلب منها أن تضغط على النظام السوري ليبدي جدية ويُقبل على التفاوض مع المعارضة، وهناك هزّوا الأرض تحت قدمي رجلها الرئيس المنتخب، فاضطر إلى تقديم تنازلات قاسية. في الحالين هاجم لافروف «المتطرّفين»، وأشار إلى أن ما تشهده كييف هو «انقلاب» فيما لم يتدخل الجيش، بل شكّل التزامه الحياد عاملاً حاسماً في هزيمة حليف موسكو. وبالنسبة إلى مفاوضات جنيف، أيّد لافروف وجهة نظر دمشق بأن «مكافحة الإرهاب» قبل الملفات الأخرى، بما فيها «الحكم الانتقالي»، فراوح التفاوض عند جدول الأعمال وانفضّ اللقاء من دون الاتفاق عليه، علماً بأن روسيا ركّزت كل جهدها ورهاناتها على ما سمّته «عملية جنيف»، لكن حصرها الأزمة بـ «الإرهاب» ينطوي على إنكار مزدوج: أولاً للحقيقة التي تعرفها جيداً، وهي أن النظام هو مَن استدرج الإرهابيين لإرباك المعارضة، وثانياً لضرورة الخطو نحو حكم انتقالي يتولّى محاربة الإرهاب بقيادة جديدة مشتركة للجيش والأمن.
أخطأت الدبلوماسية الروسية مرّتين، وكان عليها أن تتراجع. غير أن تنازلها سورياً ظل سطحياً وبعيداً جداً عن أن يكون جوهرياً، أما تنازلها في أوكرانيا، فلا يزال قيد الدرس والأرجح أنها لم تقل كلمتها الأخيرة بعد لأن مخاطر الحرب الأهلية كامنة مثلها مثل احتمالات التقسيم. ورغم إنكار واشنطن وموسكو اتهامات بعودتهما معاً إلى ممارسات حقبة الحرب الباردة، إلا أن الأزمة الأوكرانية كانت نموذجاً صارخاً للصراع على النفوذ بين شرق وغرب، وما صنع الفارق في هذه النسخة المحدّثة لتلك الحرب هو تغيّر الظروف والدور الحيوي الحاسم الذي لعبه الشعب الأوكراني.
والآن قد تطلّع موسكو إلى تفاهم مع الغرب، تحديداً مع الولايات المتحدة، لتعويض الخسارة الفادحة التي حصدتها، ربما ببلورة وضع خاص لأوكرانيا. لكن ماذا عن سوريا في هذه الحال؟ في الأساس تعترف الولايات المتحدة بمصالح روسيا فيها، وهذا جوهر ما يسمّى «تفاهمات» بينهما، غير أن الروس لم يبدوا استعداداً حقيقياً لإنجاز تسوية، مطالبين بتنازلات غربية في ملفات أخرى، منها أوكرانيا.
ولعل أوباما ربح نقطة أخيراً لمصلحة «التوافق» الذي دعا إليه مع روسيا، ولم يتحمّس له بوتين، وقد يضطر الأخير لمراجعة مجمل استراتيجيته، التي بنيت على استغلال تراجعات أميركا، لكن دون إعطاء نموذج روسي ليكون نموذجاً عالمياً جديداً ومقبولاً.
المصدر: الاتحاد