منذ اللحظة الأولى لطرح اسمه مرشحاً لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، بدا واضحاً أن دونالد ترامب شخص غير نمطي في سياساته وقراراته، ترجم ذلك خلال حملته الانتخابية التي تحدث فيها عن سياساته الداخلية والخارجية حال فوزه برئاسة الولايات المتحدة.. وبعد فوزه، لم يخالف ترامب التوقعات أو يبتعد عن تعهداته التي ساقها خلال حملته، فاتخذ قرارات مختلفة كلياً عن سابقيه، بخاصة باراك أوباما، وبدت في ما مضى من عهده سياسة انعزالية للولايات المتحدة أقرت من خلالها مبدأ «مشاركة الأعباء» في ما يتعلق بعلاقاتها والتزاماتها الخارجية.
جدل
سلسلة من القرارات التي اتخذها ترامب عززت حالة الجدل الدائرة بشأن السياسات الخارجية الأمريكية وانعكاساتها على علاقات واشنطن الخارجية مع حلفائها في العالم حتى أن بعض المراقبين رأوا أن تلك القرارات المثيرة للجدل تضع التحالفات الأمريكية على المحك في ظل حالة من عدم الثقة وحالة من الريبة في تلك السياسات وما يمكن أن يتخذه ترامب مستقبلاً من قرارات غير متوقعة.
القرار الأخير الخاص بالاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان ليس الأول من نوعه، فقد سبقته سلسلة من القرارات والتحركات الأمريكية المختلفة، على غرار قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وكذا قرارات انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقات ومنظمات دولية، منها بالانسحاب من معاهدات واتفاقات ومنظمات دولية أخرى كرست السياسات الانعزالية الأمريكية، بما يطرح جملة من التساؤلات بشأن مدى تأثر حلفاء الولايات المتحدة بتلك السياسات، وما إن كانت واشنطن بذلك تعرض تحالفاتها للتفكك وتخسر حلفاءها، أم أن المصالح الاستراتيجية تعد ضمانة لاستمرارية تلك العلاقات؟
الواقع يؤكد أن هناك حالة من الريبة من سياسات الولايات المتحدة التي لا توحي بأي ضمانات لاستمرار التحالفات القائمة، اللهم إلا تحالفها الاستراتيجي مع إسرائيل التي قدّم إليها ترامب ما لم يقدمه أي رئيس أمريكي سابق. فيما يبقى الاستثناء الوحيد الذي لقي تأييدا عالميا هو الانسحاب من الاتفاق النووي مع طهران، والعقوبات على ايرات وميليشياتها.
لا ضمانات
وفي خطٍ متوازٍ مع حالة الريبة وعدم الثقة في ترامي صاحب الشخصية والقرارات «غير النمطية»، فإن حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية التقليديين يعملون مع واشنطن «بلا ضمانات» تقريباً؛ إذ ليس هنالك ما يضمن أن ذلك التحالف سيكون مستمراً في الفترة المقبلة من عدمه، ولعل هذا ما دفع أحد المبعوثين الأمريكيين السابقين بالناتو دوج لوت للقول إنها «المرّة الأولى التي يشك فيها الحلفاء في التزام الرئيس الأمريكي.. الوضع الحالي لم يسبق له مثيل» وذلك في تصريحات نشرتها صحيفة «ذا إندبندنت» البريطانية في الذكرى السبعين لتأسيس الناتو.
وفي مؤتمر ميونخ للأمن المنعقد أخيراً بدت حالة «عدم الثقة» واضحة تماماً، ولعل ذلك ما تجلى في تصريحات أدلت بها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، حذرت خلالها من «مخاطر الانعزالية الأمريكية في الوقت الراهن».
«الحليف الوحيد الذي يتمتع بالضمانة والذي قدّم إليه ترامب كل ما يستطيع أن يقدمه هو إسرائيل.. أما باقي حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية فلا توجد ضمانة بالنسبة لهم بأن هذا التحالف سيكون مستمراً؛ لأننا أمام رئيس غير نمطي»، طبقاً لما تؤكده أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الأمريكية الدكتورة نهى بكر، لدى حديثها مع «البيان» من العاصمة المصرية.
أسلوب مغاير
الولايات المتحدة الأمريكية بالفعل في عهد ترامب تتبع أسلوباً مغايراً تماماً في التعامل مع حلفائها في العالم، وكانت تلك السياسات واضحة منذ الحملة الانتخابية لترامب، الذي طبّق ما تحدث بشأنه في تلك الحملة عملياً بعد ذلك، وانطلق من مبدأ «مشاركة الأعباء» وطبق ذلك على حلف الناتو عندما قال إن «الولايات المتحدة الأمريكية لن تستمر في حماية أوروبا»، وقد أثارت مسألة «مشاركة الأعباء» قلق أعضاء الناتو، وفق بكر.
وتتابع أستاذة العلوم السياسية قائلة: «وفي موازاة ذلك، قدّم الرئيس ترامب لإسرائيل ما لم يفعله أي رئيس أمريكي سابق، ونذكر هنا الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان.. كل رئيس أمريكي كان يأتي كان يؤجل البت في مسألة نقل السفارة الأمريكية للقدس، لكن ترامب فرض أمراً واقعاً باتخاذ القرار والتنفيذ».
وحول ما إن كانت العلاقات الاستراتيجية والاقتصادية بين الولايات المتحدة وحلفائها قد تعوض غياب ضمانة عدم تفكك الأحلاف الأمريكية في المنطقة والعالم، تقول الدكتورة نهى بكر في معرض حديثها مع «البيان» إن تلك العلاقات لا تشكل هذه الضمانة، مستدلة بذلك على سبيل المثال على إصرار ترامب على بناء جدار المكسيك وبحثه عن سبل تمويله.. «حتى أن الضمانة الاقتصادية –وإذا كنا نتحدث هنا عن أمن الطاقة- فأمريكا لديها مصادر منوعة للحصول على الطاقة وتستخرج النفط بطرق مختلفة ومتعددة،
وتختتم حديثها بالإشارة إلى أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب»لا يتعامل بالدبلوماسية النمطية التي نعلمها ونستطيع توقعها وتحليلها.. ولا أعتقد بأن ثمة ضمانات أمريكية لأي شيء في ظل وجود رئيس غير نمطي«.
شراكات استراتيجية
السياسة الانعزالية التي تتبعها الولايات المتحدة الأمريكية والتي تنطلق من مبدأ»أمريكا أولاً«سبق وأن حذّرت منها العديد من القوى الدولية والإقليمية ومن تداعياتها التي قد تسفر عن تفكك أحلاف الولايات المتحدة وإثارة مشكلات أمنية واقتصادية في المنطقة والعالم. لكن بعض المراقبين يتبنون رأياً مغايراً يقول إن واشنطن وبما لديها من مصالح اقتصادية متشعبة وعلاقات استراتيجية تتعلق بأمن العالم»قد لا تتأثر بتلك السياسة بصورة كبيرة على المدى المنظور«.
»بشكل عام، إن سياسات ترامب الانعزالية عليها انتقادات واسعة بالفعل، لكن هذا لا يمنع أن الولايات المتحدة مازالت القوة العظمى في العالم، ولها تحالفات في منطقة الشرق الأوسط، وعلاقات مرتبطة بالعديد من القطاعات الرئيسية.. وبالتالي لا أتوقع تفكك حلفاء الولايات المتحدة على وقع تلك السياسة أو القرارات التي يتخذها.
ترامب«، طبقاً لخبير العلاقات الدولية طارق البرديسي، الذي يعزي لدى حديثه مع»البيان«- ذلك الأمر إلى أن»هناك أموراً خلافية، لكن المصالح المشتركة تحكم على الولايات المتحدة وحلفائها المحافظة على تلك التحالفات«.
خلافاتويتابع:»هناك خلافات في أمور جزئية وتفصيلية، مثل عدم احترام الولايات المتحدة الأمريكية للقانون الدولي، وهو ما تمثل على سبيل المثال في قرارها الأخير المرتبط بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وهناك حالة غضب عربية جراء تلك القرارات الأمريكية.
وحول طبيعة العلاقة مع الشركاء الأوروبيين، يعتقد بأن الأمر مشابه كثيراً، فالمصالح تحكم المسألة، فعلى رغم الانسحابات المتتالية للولايات المتحدة الأمريكية من منظمات واتفاقات دولية مُهمة، وعلى رغم اتجاه دول في حلف الناتو مثل ألمانيا وفرنسا للتعاون مع الروس –بما يثير حفيظة الأمريكان- إلا أن ذلك لا يعني تفكك حلفاء الولايات المتحدة في ظل الانعزالية الأمريكية انطلاقاً من المصالح الاستراتيجية المشتركة. ويشير في السياق ذاته إلى أن الانعزالية الأمريكية»ربما تكون ضارة جداً بالولايات المتحدة في المنظور البعيد، لكنها حاليا تحتفظ بشراكات قوية واستراتيجية مع دول الشرق الأوسط والاتحاد الأوروبي، وحتى مع تركيا على رغـم أزمــة صواريـخ إس 400«.
تقليل من خطر التفكك فيما تُقلل المستشارة السياسية السورية الأمريكية مرح البقاعي، لدى حديثها مع»البيان«من واشنطن عبر الهاتف، من إمكانية تفكك أحلاف الولايات المتحدة على وقع سياسات ترامب الانعزالية، على أساس أنه»لم تحدث نتائج قوية للمواقف الأمريكية الأخيرة مثل الموقف من القدس والجولان؛ إذ لن يكن هناك رد قوي، فكانت هناك ردود شعبية أقوى بكثير من الردود الرسمية، والردود الشعبية لا تفكك الأحلاف السياسية«.
وتشير البقاعي إلى أن الرئيس الأمريكي»غيّر كثيراً بالسياسات الأمريكية، وأخذها أحياناً في زوايا مختلفة جداً عن كل أسلافه من الرؤساء السابقين -بخاصة أوباما- ولا توجد أية مواقف عملية مقاومة لما يتخذه من قرارات، حتى مواقف المجموعة الأوروبية جميعها غضب ورفض وبالتالي لا تفكك الأحلاف القديمة.. على سبيل المثال فيما يتعلق بالموقف الأمريكي من الاتفاق النووي مع إيران، وذلك الانسحاب الأمريكي الذي يؤثر كثيراً على أوروبا، لم نر أمام ذلك ردود فعل قوية مباشرة تؤثر على القرار الأمريكي من أوروبا، فقط حاولت أوروبا أن تلتف على القرارات (العقوبـات ضد إيران) لكن لم تواجهها، وذلك حتـى تضمـن مصالـح شركاتهـا ومؤسساتهـا«.
أمريكا أولاً.. شعار انتخابي ترجم إلى قرارات
«أمريكا أولاً» هو الشعار الذي رفعه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في حملته الانتخابية وتترجمه قراراته وسياساته كافة، يغلف هذا المبدأ الإدارة الأمريكية في توجهاتها وسياستها الخارجية، ويظهر من خلال العديد من القرارات والمواقف المتخذة من جانبها.. تلك المواقف التي تهدد العلاقة مع الحلفاء وتجعلها مغايرة تماماً لما كانت عليه في وقت سابق، بخاصة في عهد باراك أوباما.
ومن ثمّ»يتصور البعض أن ذلك يقود إلى تفكك أو تهديد التحالفات الأمريكية الخارجية«، لكنّ الأمر في تصور المحلل السياسي الأمريكي عضو التحالف الأمريكي الشرق أوسطي آشلي أنصارا، في حديثه مع»البيان«عبر الهاتف، لا يشكل تهديداً لتلك التحالفات –والكلام على لسان أنصارا- ليس له مكانة الأولوية في السياسة الخارجية الأمريكية الحالية، على أساس أن الأولوية تنسحب إلى ملفات أخرى تضعها الإدارة الأمريكية في المقدمة أهمها ملف التعاون الروسي الصيني، والذي يشكل صراعاً ومنافسة كبرى على الصعيدين التجاري والاقتصادي.
وفيما يتعلق بالعلاقات الأمريكية مع الحلفاء الأوروبيين، وعلى رغم أن هنالك عدداً من الملفات التي»يبدو فيها الخلاف جلياً بين الجانبين«والتي يستند إليها البعض في الحديث عن نذر تفكك بالتحالفات الأمريكية الأوروبية، فإن العلاقات بين الجانبين هي علاقات استراتيجية قديمة ومتواصلة، وتعتبر الولايات المتحدة أوروبا الصغيرة، وأوروبا أمريكا الكبيرة.. وما يبدو من خلاله هو خلاف على السطح فقط، لكن الجوهر كله متفق على سياسة وتوجهات واحدة. – سلسلة من القرارات المتصلة التي اتخذتها الإدارة الأمريكية في عهد ترامب عززت مرجل الجدل على صعيد العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة وحلفائها وعلى صعيد العلاقات متعددة الأطراف أيضاً، بخاصة أن تلك القرارات حملت تغييراً جذرياً مباشراً في سياسة الولايات المتحدة الخارجية،
هذا ما يؤكده رئيس المجلس المصري للشؤون الخارجية السفير منير زهران، في حديثه مع “البيان” من العاصمة المصرية القاهرة ، ويقول إن تلك القرارات المفاجئة في بعض الأحيان التي يتخذها ترامب “من الممكن أن تؤثر بصورة مباشرة على العلاقات الدولية وعلاقة الولايات المتحدة مع حلفائها في العالم”.
وخصّ زهران بالذكر قرار الرئيس الأمريكي في السادس من شهر ديسمبر 2017 والخاص بالاعتراف رسمياً بالقدس عاصمة لإسرائيل، وما تبعه من تطورات بعد ذلك في 14 مايو 2018 والمتمثلة في افتتاح السفارة الإسرائيلية في القدس. وأيضاً قرار الإدارة الأمريكية في مارس 2019 والخاص بالاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان، وجميعها قرارات وصفها بأنها قد تؤثر بصورة مباشرة وغير مباشرة في العلاقات الدولية ككل.
المصدر: البيان