سينما هوليوود السياسية تحارب مؤسسـات الحكـم الــديمقراطية في أميركا

منوعات

تنبأت السينما كثيراً بافتراضات أصبحت حقائق في حياتنا الواقعية، بعض تلك الافتراضات كان واضحاً وبشكل مباشر والبعض الآخر يأتي بطريقة التمرير أو الإيحاء. من الافتراضات المباشرة التي تحولت إلى حقائق هو وصول رئيس أميركي من أصول إفريقية إلى سدة الرئاسة في البيت الأبيض، فقد تنبأت أفلام ومسلسلات بذلك، مثل فيلم «الرجل» عام 1972 الذي وضع أميركياً إفريقياً في الحكم نتيجة مقتل الرئيس ومرض نائبه، وأسند دور الرئيس إلى الممثل جيمس إيرل جونز. ولم نرَ رئيساً إفريقياً لأميركا في السينما بعدها إلا عام 1997 في فيلم الخيال العلمي «العنصر الخامس». رغم ذلك يبقى مورغان فريمان صاحب أشهر تجسيد لهذا الدور في فيلم «ديب إمباكت» عام 1998، وكان هناك مسلسل (24) الشهير الذي أدى دور الرئيس فيه دينيس هيزبيرت.

أما بالنسبة للافتراضات الإيحائية فكانت بفكرة وصول رجال من خارج عالم السياسة أي مستقلين إلى البيت الأبيض، مثل فوز الرئيس المنتخب دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية الأميركية أخيراً. هوليوود تناولت هذا الموضوع بصورة ساخرة وغارقة في الخيال غالباً، لكن عندما أصبح الخيال واقعاً لزم طرح الموضوع واستقراؤه.

ما نجده غريباً هو أن سخرية هوليوود في الأفلام انصبّت على أهل السياسة مقابل تمجيد المرشحين المستقلين، لكن عندما تبارى مرشح مستقل لا ينتمي أصلاً إلى الحزب الجمهوري مثل دونالد ترامب ضد ابنة السياسة وصاحبة الخبرة هيلاري كلينتون، انحازت هوليوود بقوة إلى جانب كلينتون متهمة ترامب بالجهل والتعصب. ووصل الأمر إلى درجة أن تبرعات هوليوود لكلينتون تجاوزت 22 مليون دولار، بينما لترامب بلغت 290 ألفاً فقط، ثم انقلب السحر على الساحر ووصل المستقل ترامب إلى الحكم.

قد تكون أعمال السينما والتلفزيون ضرباً من الخيال الجامح، لكنها تترك أثراً عميقاً في سلوك وأطباع البشر وقد تلقن الناس دروساً في اختيار منهجهم في الحياة الواقعية، وقد نجد فيها سبباً لفهم ما الذي جعل مرشحاً مستقلاً متناقضاً يفوز بالرئاسة، بينما خسرت منافسته صاحبة الباع الطويل في فن الممكن.

دعونا نستعرض أهم أفلام هوليوود التي تناولت هذا الموضوع. فيلم «ديف» الغريب الأقرب إلى قصص ساحرات، بل هو سندريلا في سينما السياسة. ديف كوفيتش (كيفن كلاين) رجل في الأربعين من عمره يدير وكالة توظيف في واشنطن يتميز بشبه كبير مع الرئيس الأميركي ويليام ميتشيل، ويطلب منه أحياناً تقمص دور الرئيس في بعض المناسبات لأسباب أمنية. في إحدى المرات يطلب رئيس فريق الأمن الرئاسي من ديف الذهاب إلى فندق، وفي تلك الأثناء يتعرض الرئيس لأزمة صحية ويغمى عليه، ما يجبر رجاله على تثبيت ديف كرئيس بديل، خصوصاً أنهم غير مقتنعين بنائب الرئيس.

المقصود من القصة هو القادم من الخارج الذي يفتقد الخبرة السياسية ولم يترشح لأي وظيفة قيادية في الحكومة ينتهي به الأمر ليصبح رئيساً، ويكون أداؤه أفضل من ساكن البيت الأبيض عبر الانتخابات.

الرئيس السابق المريض، حسب الفيلم، شخص بارد وله حسابات سياسية ومجرم وغير مبالٍ باحتياجات الشعب الأميركي بعكس ديف الملتزم تماماً بواجباته السياسية والمرح والعاشق للفنون، والذي هو في النهاية رجل الشارع العادي (مستقل) وليس ابن المؤسسة السياسية. ديف بارع في السياسة، حسب الفيلم، لأنه ليس سياسياً ولم يختلط بالساسة وأخلاقهم. ما يقودنا إلى استنتاج أن صناع الفيلم يريدون مناقضة العرف السياسي السائد (السياسي يجب أن يأتي من خلفية سياسية) بفكرة أن النجاح في السياسة سيأتي بتجنب المرشح الدخول فيها في المقام الأول.

السياق التاريخي للسياسة الأميركية يعكس حقيقة تتفق مع وجهة نظر الفيلم، وهي أنه في الماضي كان إعلان نية الترشح لوظيفة عامة يعتبر شيئاً غير لائق، لأن المفترض ألا يترشح أحد للوظيفة، بل يجب أن يطلب لها.

هناك أيضاً فيلم The Candidate أو «المرشح» عام 1972، فيلم شبه ساخر عن رجل (روبرت ريدفورد) من خارج الدوائر السياسية يترشح لمقعد كاليفورنيا في مجلس الشيوخ ضد مرشح من داخل المؤسسة السياسية.

وأيضاً لدينا فيلم «رئيس الدولة» عن الموضوع نفسه: رجل خارجي (كريس تاكر) يثبت أنه أفضل في السياسة من أي مرشح آخر من المؤسسة. حتى في مسلسل مثل «الجناح الغربي»، وهو العمل الذي يعكس أقوى إقرار بقوة المؤسسات السياسية في الولايات المتحدة، رأينا كيف تم تزيين مرشح خارجي مثل جيد بارتليت (مارتن شين) بجعل حملته إلى البيت الأبيض تتسم بطابع ثوري. بارتليت نفسه مرشح من خارج الدائرة فاز بالرئاسة دون عملية التصاعد الهرمي.

ولو نظرنا إلى الجانب الآخر من المعادلة فإننا نجد هوليوود لا تكتفي بتمجيد من يأتي من خارج الدائرة فحسب، بل تذهب لتسفيه وتحقير كل المشتغلين بالسياسة. فيلم Wag the Dog مثلاً، كوميديا سوداء من آخر التسعينات ذات الرؤية الأكثر سخرية من الديمقراطية الأميركية التي تقلل من أهمية وعظمة فكرة تلك الديمقراطية بتصويرها كأنها غاية في البلاهة والسطحية. الفيلم عن رئيس أميركي يتعرض لفضيحة جنسية فيلجأ إلى إشعال حرب مزيفة بالتعاون مع صانع أفلام من هوليوود لضمان إعادة انتخابه.

الفيلم المذكور أعلاه له نظير يسمى «انتخاب» عام 1999 يتعامل مع فكرة أن الطموح السياسي دليل على الأنانية ودناءة الأخلاق وعدم الكفاءة للمنصب السياسي كأنها أمر بديهي. حتى لو عدنا إلى فيلم «ديف» سنجد أنه يتعامل مع الأمر بالطريقة المعكوسة نفسها، فكما يتحول الرئيس البديل إلى شخصية سياسية ناجحة جداً لأنه ليس سياسياً أصلاً، فإن الذين وضعوه في المنصب، وهم أبناء المؤسسة، يتحولون إلى متزلفين ومتعطشين للسلطة وفاسدين ولا يفهمون أن تحول الشخص إلى دمية سياسية هو إهانة وليس شرفاً. الفكرة العامة في «ديف» هي أن واشنطن تفسد المرء تدريجياً، لكن بصورة قطعية.

هناك ثلاث سمات تلاحظ في الأفلام السياسية بشكل عام وليس فقط في الأمثلة المذكورة في هذا الموضوع: أولاً، هناك دائماً إشارة إلى أن واشنطن «مستنقع قذر» بحاجة ماسة إلى تجفيف. ثانياً، الكونغرس عبارة عن مجارٍ قذرة دون أي إنجاز يذكر. ثالثاً، الحكومة الأميركية مترهلة وقذرة ومصابة بأمراض معدية.

فيلم «كل رجال الرئيس» عام 1976 يستعين بالتاريخ ليثبت فكرة أن السياسيين غير جديرين بالثقة. فيلم «ليغالي بلوند» الجزء الثاني عن إيل (ريز ويذرسبون) خريجة جامعية تتجه إلى العاصمة واشنطن لتقتحم أروقة الكونغرس وتنتزع قانوناً يحمي حقوق الحيوانات ويمنع التجارب بحقها. فكرة الفيلم أن الكونغرس غارق في الفساد وبأمور تهم أعضاءه ولا تمس الشعب، وعندما تأتي إيل تحارب ذلك الفساد وتنتصر من أجل الحيوانات.

«السيد سميث يذهب إلى واشنطن» لفرانك كابرا عام 1939 عن رجل ساذج يعيّن لملء شاغر في مجلس الشيوخ الأميركي، فيصطدم بالفساد السياسي هناك. كابرا لم يُشر في فيلمه إلى ديمقراطيين أو جمهوريين، لم يُشر إلى يمين ولا يسار، حتى يضمن عدم انحياز فيلمه وشخصيته لأي توجهات سياسية.

لم يشر حتى لأي أحداث عالمية حتى لا يتم ربطه بها، وبذلك أصبح مثالاً تخطى حدود الزمان والمكان لمحاربة الفساد. الفيلم ليس عن السياسة، لكنه عن القيم والأخلاق.

«المرشح المنشوري» عام 2004، الذي يدور حول جنود أميركيين مختطفين ويتعرضون لعملية غسيل أدمغة لتحقيق أغراض دنيئة، و«السيد المتميز» 1992 عن محتال يستغل وفاة عضو كونغرس من منطقته يحمل اسمه نفسه، فيتقمص شخصيته ليستفيد من الفساد المستشري في الكونغرس، والحصول على أموال طائلة من جماعات الضغط.

فيلم «بولوورث» 1998 عن سياسي فاسد (وورين بيتي) يائس من الحياة بعد خسارته الانتخابات يعين من يغتاله لتستفيد ابنته من التأمين، لكن عندما يفيق من سكرة الفساد يقرر فضح السياسيين الآخرين.

مسلسل Veep التلفزيوني يضاهي فيلم Wag the Dog في سخريته الشديدة من فاعلية الحكومة الفيدرالية الأميركية، ومسلسل «ناجي معين» الذي تتقارب فكرته مع «ديف» عن سياسي مبتدئ (كيفر سذرلاند) يصعد إلى قيادة الدولة في ليلة وضحاها، ويصبح أفضل من كل السياسيين السابقين والمعاصرين.

كل هذه القصص عن نجاح الأشخاص الخارجيين في السياسة في تلك الأفلام أشبه بحكايات الساحرات التي كتبها هانز كريستيان أندرسون أكثر من نسخ ديزني المحدثة عن الموضوع نفسه. كلها توظف الاستثنائية السياسية، وتصور أن القذارة عنصر متأصل في السياسة، وكل أمل بالتخلص من الفساد لن يأتي سوى من شخص خارجي ينقي النظام. كل تلك الأفلام تترك مساحة صغيرة للتفاؤل بخصوص مؤسسات الحكم، ومساحة قليلة للأمل أن النظام المليء بسياسيين محترفين يمكن أن يعمل بانسجام، وأن يكتسب وزنه.

تلك الأفلام تفضل ديف كوفيتش على بيل ميتشيل وجيد بارتليت على جون هوينز، وبالطبع دونالد ترامب على هيلاري كلينتون. ليس لأنهم يتبنّون مواقف ثنائية الحزب أي تجمع بين طرفي نقيض في السياسة الأميركية، لكن لأنهم متحيزون ضد الحزبية نفسها، فهم لا يثقون بالسياسة ولا النظام، وكل ما يسعون لتحقيقه هو ثورة تجديدية تقلب أسس النظام، أو كما أشار ترامب أنه لا يحترم واشنطن ولا مؤسساتها ولا كيفية إدارة الأمور فيها، بل حتى لا يتردد في إظهار احتقاره لها.

في مشهد المناظرة من فيلم «رئيس الدولة» يتبارى المرشح الخارجي ميز غيليام (كريس روك) ضد نائب الرئيس الأميركي وابن المؤسسة الخبير برايان لويس (نيك سيرسي)، فيقول له: عندما يتعلق الأمر بالدفع للمزارعين كي لا يزرعوا الغذاء بينما الناس تتضور جوعاً في هذه البلاد… نعم فأنا هاوٍ في السياسة، فيصفق له الجمهور.. ثم يكمل: عندما يتعلق الأمر بوضع سياسة دوائية يكون فيها الهيروين أرخص من أدوية الربو والإيدز.. نعم أنا هاوٍ.. فيصفق له الجمهور مجدداً.. ثم يكمل: ليس هناك مشكلة في كوني غير محترف في السياسة، فكل عمال السكة الحديدية كانوا هواة، مارتن لوثر كينغ كان هاوياً، هل ذهبت إلى مسرح أبولو للهواة؟ ستجد أفضل المواهب الغنائية العالمية هناك!

المقصود أن الحكم أصبح عملاً قذراً في السياسة الأميركية يحمل كثيراً من المساومة والتنازل وينعدم فيه الرضا. قد يكون هذا السبب في فوز كل مرشحي الرئاسة السابقين الذين وظفوا شعارات ذات طابع غير سياسي في حملاتهم. بيل كلينتون الثائر الجنوبي استخدم شعار «من أجل الناس ومن أجل التغيير»، جورج بوش الابن استخدم شعار «مصلح من أجل نتائج ملموسة»، باراك أوباما جاء بشعار «الأمل والتغيير»، أما دونالد ترامب فقد وعد بتفكيك النظام من الداخل.

المصدر: الإمارات اليوم