د. علي جمعة: شريعتنا قادرة على التعامل مع كل مشكلات العصر

أخبار

فقيه عصري قدير، يثق في علمه وفكره ووعيه كل من يتعامل معه من العلماء والجماهير، تعرض ولايزال يتعرض لانتقادات المتشددين الذين افتقدوا سماحة الشريعة الإسلامية ورحابتها في التعامل مع مشكلات المسلمين وأزماتهم، وفي كل معاركه الفقهية مع الخارجين عن تسامح الإسلام يخرج منتصراً، لأنه ينحاز لتعاليم الإسلام الصحيحة، ويواجه بشجاعة العالِم كل من يتصدون للفتوى عن جهل بمقوماتها الأساسية، وكل من يتحدثون في أمور الدين من دون علم واستعداد، الذين توعدهم الله ورسوله بأقصى درجات العذاب إذا لم يبادروا بالتوبة والندم.

إنه العالم الأزهري د.علي  جمعة عضو هيئة كبار العلماء ومفتي مصر السابق الذي التقيناه وحاورناه.. وهنا التفاصيل:

هل ترى أن التحديات التي تواجه الفقهاء الآن أكثر مما كانت عليه في الماضي؟

– هذا صحيح، فهم يعيشون في عصر الأحداث الكبرى والثورة العلمية والتكنولوجية التي أنتجت أموراً تحتاج إلى حكم الشرع، فتغيرات العصر الهائلة التي شهدها العالم خلال القرنين الماضيين تمثل – بلا شك – تحدياً كبيراً بالنسبة لفقهاء المسلمين، وأصبح لزاماً عليهم أن يُعيدوا قراءة الواقع، وأن يأخذوا في الاعتبار ما طرأ على عالمهم من تغير كبير يحتاج إلى إبراز الموقف الشرعي الصحيح بعيداً عن وسطاء السوء الذين ينقلون صورة غير صحيحة عن الإسلام وشريعته.

إننا والحمد لله نمتلك فقهاً مرناً، وهذه المرونة تزوِّد الناس بما يحتاجون إليه من إرشادات وهدايات، وفي الوقت ذاته يظل الإسلام الحق ثابتاً شامخاً بما له من أصول وقواعد، فليس معنى المرونة أن تميع القضايا التي للإسلام فيها رأي، ومن خلال مرونة الشريعة الإسلامية يستطيع الفقهاء والمفتون أن يقدموا حلولاً لكل مشكلات العصر التي تواجه العالمين الإسلامي والغربي على السواء.

نصيحة للمفتين

بماذا تنصحون الذين يتصدون للفتوى في هذا العصر من خلال خبراتكم الطويلة مع عالم الإفتاء وقيادتكم لدار الإفتاء المصرية لسنوات؟

– أولاً، أنصح من لا يمتلك مقومات الفتوى بأن ينجو بنفسه من عذاب الله، فكل من يفتي في أمور الدين من دون علم «كذاب»، وكل من يقول: قال الله وقال الرسول عن جهل يكذب ويضلل الناس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار».

أما الذين يفتون ويمتلكون المقومات الشرعية للفتوى فأوصيهم بالتسلح بالمعارف المتنوعة وعلوم العصر، وأن يدركوا أن هناك خطوات يجب مراعاتها عند إصدار الفتاوى للناس، خاصة أن الفتوى هي ذلك الجسر الذي يربط بين تراثنا الفقهي وعالمنا المعاصر، بالإضافة إلى أن عملية إصدار الفتاوى تتطلب أبعاداً أخرى غير المعرفة بالفقه الإسلامي؛ وهي أن يكون المفتون على دراية تامة بالعالم الذين يعيشون فيه، وبالمشكلات التي تواجه مجتمعاتهم، والسر فيما نراه من آراء غير سديدة هو افتقار بعض من يتصدون للفتوى إلى هذه الأبعاد المهمة.

ماذا تقولون للجماهير الذين يسألون حول كل شيء وينتقلون من عالِم إلى آخر بحثاً عما يريدون من أحكام؟

-أولاً: إقبال الجماهير على العلماء لسؤالهم في أمور الدين أمر طيب شريطة أن يكون هدف طالب الفتوى معرفة أمور دينه، وليس الحصول على ما يريد من أحكام تتفق مع هواه.

فالإقبال على العلماء قد يكون دليل تقوى وورع وحرص على الدين، لكنه يصبح علامة نفاق لو كان الهدف منه أن يتردد المسلم على أكثر من عالِم لكي يحصل على مبرر شرعي لسلوكياته وتصرفاته وقناعاته، وهذا الصنف من الناس تراه يجادل العلماء ويناقشهم ويقدم لهم المبررات ويسوق لهم المسوغات لتصرفاته، فهو لا يقتنع بما يقوله له العلماء الذين يستفتيهم، ولذلك هو لا يستفيد منهم، وليس حريصاً على معرفة الحلال والحرام.

وهؤلاء ننصحهم بالكف عن ذلك والعمل بفتوى عالم واحد ذي ثقة عند المستفتي، فلو قال في أمر ما رأياً أو اجتهاداً فعلى المسلم أن يعمل به، والمسؤولية في رقبة المفتي، ولا بد هنا من التنبيه إلى أنه على المستفتي أن يتأدب بآداب الإسلام وأخلاقه بأن يبتعد عن التساؤلات التي تكشف أسرار البيوت والعلاقات الخاصة بين الزوجين، وقد يكون هذا مقبولاً لو تم بين السائل والمجيب، ولكنه لا يجوز حين يكون على الهواء ويسمعه الأطفال والشباب والنساء.

خطباء المساجد

هل خطباء المساجد مؤهلون للإفتاء والكلام عن الحلال والحرام؟

-بعضهم يستطيع ذلك إذا كان يمتلك ثقافة شرعية واسعة، ونحن لا نرى حرجاً في أن يوضح هؤلاء الأحكام الشرعية للناس، فالمفروض أن هؤلاء الدعاة أو الخطباء لديهم إلمام كامل بالأحكام الشرعية، فهي من مكونات الثقافة الإسلامية التي ينبغي أن يتحلى بها خطيب المسجد أو الداعية عموماً، لكن ليس كل خطيب مسجد قادراً على الفتوى، لذلك ننصحهم بأن يتسلحوا بعبارة «لا أدري» حرصاً على دينهم، وحرصاً على الثقة بينهم وبين الناس.

لكن.. لو قال داعية أو خطيب مسجد لمسلم ذهب ليسأله في أمر ديني «لا أدري» فسوف يفقد الثقة به.

– بالمناسبة عبارة «لا أدري» كان يرددها كبار الفقهاء قديماً، وكانوا يحظون باحترام وتقدير الناس، ومن يقول: لا أدري، أفضل عند الله، وعند الناس، ممن يفتي من دون علم ويضلل الناس.

ويستطيع الداعية الذكي أن يخرج من هذا الموقف بأن يأخذ سؤال السائل ويعده بالإجابة عنه في اليوم التالي مثلاً بعد أن يستوثق من علماء الفتوى الذين يملكون الرأي الشرعي الصحيح.

هو الجهل بعينه!

بعيداً عن الفتوى والمفتين.. ماذا تقولون لبعض المثقفين الذين يتعاملون مع الإسلام على أنه مناهض للديمقراطية الحديثة؟

– هذا هو الجهل بعينه، لأن مبادئ الحرية والكرامة الإنسانية التي تنادي بها الديمقراطية الحديثة هي جزء من الأساس الذي بنيت عليه حضارة الإسلام، فأحكام الشريعة تسعى إلى تحقيق مقاصد عليا معتبرة، من أهمهما الحرية والكرامة الإنسانية، وكل الشعارات التي يرفعها عقلاء المثقفين تحدث عنها فقهاء الإسلام قديماً باعتبارها مطلباً شرعياً.. لذلك ننصح هؤلاء المثقفين الذين يتحدثون عن الإسلام وشريعته عن جهل بالتعرف إلى شريعتهم الإسلامية من مصادرها الصحيحة، وليس من كتابات بعض الغوغائيين الذين يتعاملون مع شرع الله بمنطق «ولا تقربوا الصلاة».

سلوكيات شاذة

وماذا تقولون للذين يصلون ويصومون ويزكون ويتظاهرون بالتقوى والصلاح، لكنهم يرتكبون سلوكيات شاذة وغريبة ويحرضون على ارتكاب جرائم ويشجعون على ممارسة فساد؟

-أقول لهم: توبوا إلى الله عن سلوكياتكم الشاذة والغريبة، واعلموا أن عباداتكم لم تكن خالصة لوجه الله عز وجل، ولا تكونوا من الذين يخرجون من الدنيا مفلسين مهما تعددت وجوه الخير الذي يفعلونه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يوضح لنا هذه الحقيقة في الحديث النبوي الشريف حيث قال لبعض صحابته الكرام: «أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فرد عليهم صلوات الله وسلامه عليه قائلاً: المفلس مِنْ أمتي مَنْ يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار».

من هنا يتضح لنا أن الغاية المنشودة من العبادات في الإسلام أن تزكي النفس الإنسانية وتصقلها وتوثق صلة الإنسان بخالقه وصلته بالناس على أساس من العقيدة الصحيحة والخلق الحسن.

في رمضان يتساءل بعض العصاة والمذنبين عن طريق الخلاص وكيفية النجاة.. بماذا تنصحونهم؟

-في هذا الشهر الكريم يجب أن يعقد المسلم العزم على التخلص من ذنوبه وآثامه، فنحن في شهر توبة ومغفرة، والله سبحانه وتعالى يقبل توبة عبده ما دامت خالصة وصادقة.

والواقع أن الذين يبحثون عن وسيلة للتخلص من ذنوبهم، ويدركون أنهم يحملون هماً ثقيلاً، أفضل حالاً عند الله من هؤلاء الذين أغواهم الشيطان، وارتكبوا ذنوباً ومعاصي ولايزالون يسيرون في طريق المعصية، يضاعفون كل يوم ذنوبهم ومعاصيهم، وهم لا يدركون خطورة ذلك على حياتهم الدينية والاجتماعية والأخلاقية، ولا يعلمون أن الذنوب والمعاصي التي تعودوا عليها وأدمنوها تجلب لهم الفقر والمرض وتدفعهم إلى الاستمرار في طريق الانحراف وارتكاب الجرائم.. فضلاً عما ينتظر هؤلاء العصاة من عقوبات رادعة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

ويجب أن يدرك كل العصاة أن طريق التوبة سهل وميسور لكل العصاة، ولذلك يجب على كل مسلم أن يبادر بالتخلص من ذنوبه وآثامه ليبدأ صفحة جديدة من حياته مع خالقه.

التوبة الصادقة

ما مواصفات التوبة النصوح التي تُخلص المسلم من كل ما ارتكب من معاصٍ وذنوب؟

-التوبة الصادقة تعني أن يرجع الإنسان المذنب أو العاصي إلى خالقه، يلتمس منه العفو والمغفرة والرحمة بعد أن انحرف عن طريق الله المستقيم، فالتوبة تكون من ذنب، ولذلك فإن أول خطوة للإنسان على طريق التوبة الصادقة تتمثل في اعترافه بالذنب، ثم الإقلاع عنه، والندم على فعله، والاستغفار منه، والعزم على ألا يعود إليه أبداً ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

وليس هناك ذنب مستعصٍ على التوبة، فالله سبحانه وتعالى فتح طريق التوبة لكل المذنبين من عباده، وحثهم على المبادرة بالتخلص من المعاصي والذنوب، فقال تعالى: «وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون»، وقال أيضاً: «يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه».

لذلك فإن المطلوب من المسلم العاصي أو المذنب أن يبادر بالتوبة ليتخلص من ذنوبه وآثامه ليعود طاهراً من الذنوب كيوم ولدته أمه، فطريق التوبة سهل وميسور لكل العصاة والمذنبين.

وما موقف الشرع من الذين يدمنون المعاصي طوال العام ثم يأتون بحج أو عمرة في رمضان لكي يتخلصوا من ذنوبهم؟

-التوبة من الذنوب ليس لها موسم معين ينبغي أن ينتظره المسلم، صحيح أن الله سبحانه وتعالى قد جعل بعض الفرائض مكفرات للذنوب وتخليص المسلم من معاصيه وتطهيره من آثامه مثل فريضة الصوم التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنها: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه»، وفريضة الحج التي بشر عليه الصلاة والسلام كل من أداها بإخلاص والتزم بالآداب والأخلاقيات السامية في أدائها بغفران ذنوبه فقال: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه».

فالمسلم مطالب مع وجود هذه النفحات الإلهية أن يبادر بالكف عن المعاصي والندم عليها والتوبة منها بعد كل ذنب، ومن رحمة الله عز وجل بالمسلم العاصي أنه يشعر دائماً بتأنيب الضمير، حتى لو تمكن منه الشيطان ويظل شاعراً بالذنب حتى يجد من يساعده على التوبة، وهذه مسؤولية العلماء والدعاة الذين يجب أن ييسروا للناس طريق التوبة ويزرعوا في نفوسهم الأمل.

ومن هنا يجب أن يعلم كل مسلم أنه مطالب بالإسراع إلى التوبة وإهمال البعض لها أو تأخيرها إلى مرحلة الشيخوخة تصرف خاطئ، فالإنسان لا يدري متى ينتهي عمره، فقد يموت بعد ارتكابه الذنب مباشرة، ويلقى الله من دون توبة وهو محمل بالذنوب والآثام، ولذلك لا معنى لتأخير التوبة، فهذا ليس تفكير عقلاء، والمطلوب من المسلم أن يبادر بالتوبة بعد ارتكاب الذنب مباشرة.

المصدر: الخليج