شعر دياحين مطير.. الوجدان القبلي وتجليات الفروسية في الذاكرة البدوية

آراء

خاص لـ هات بوست: 

      يشكّل الشعر في البادية العربية مرآةً للذات الجماعية، وسجلاً لأحداثها وقيمها، ولئن كان لكل قبيلة صوتها الشعري المميز، فإن شعر الدياحين من قبيلة مطير يبرز بوصفه نموذجاً متفرّداً يجمع بين فروسية القول وصدق الشعور، ويختزن في لغته ملامح الأصالة والكرامة والوفاء، إنّه شعرٌ يتجاوز المديح والفخر إلى بناء سردٍ جمعيٍّ يحفظ الذاكرة، ويعيد صياغة الهوية في زمنٍ تتقاطع فيه القيم وتتشظى الانتماءات، كما يشكّل نصاً ثقافياً يعبّر عن روح البادية ليس بصورتها السطحية فحسب، بل ببنيتها النفسية والعقلية التي تكوّن جوهر الإنسان البدوي.

      وليس من الإنصاف أن أشرع في تعداد شعراء الدياحين، أو أن أذكر نماذج من شعرهم ففي التعداد إجحاف بمن يغيب اسمه عن ذاكرتي، وفي الانتقاء ظلم لتجربةٍ أعمق من أن تُختصر في أسماء أو بعض أبيات، غير أنهم اتفقوا في اتجاهات شعرهم على الجمع بين الفروسية والنبل والكرم، وبين حكمة البادية ونبض الصحراء، فشكّلت قصائدهم وجداناً نابضاً بالحياة، مفعماً بالتغني بالمجد، ونبل الأصل، وإغاثة الملهوف، وحفظ الجوار، معتزاً بالحنين ومواقف البطولة.

      اعتمد شعر الدياحين على مركزية الفخر، ليس بوصفه ترفاً لغوياً، بل كونه ضرورة لحفظ الذاكرة، فالشاعر لا يمدح مطيراً لأنّها قبيلته فحسب، بل لأنّها رمز للكرامة والبقاء، ولأنها الامتداد الطبيعي للأرض التي تحتضن الفروسية والحرية، لذلك وجدنا في كثير من نصوصهم توثيقاً لأيامٍ ومعارك، تُذكر فيها المواقف البطولية بأسماء أبطالها ورموزها، وكأنّ القصيدة أضحت وثيقة تاريخية تنطق بلسان الجماعة، وتؤرخ للحظات إنسانية عابرة تتجاوز حدود الزمان والمكان، تتصف بعمق الأثر والتأثير، فجاوزت قصائدهم وظائفها الجمالية، لتغدو صوتاً يتردد عبر الأجيال.

      ويُعد الكرم عند مطير قيمةً وجودية لا تقف عند الضيافة المادية، بل تتعداها إلى الكرم الأخلاقي والنفسي، يظهر ذلك في مفرداتهم التي تحتفي بـ(النخوة)، و(الوجه الأبيض)، و(اليد السخية)، و (إغاثة الملهوف)، و( الوفادة)، وكذلك الصفات التي تُطلق على الكريم صاحب اليد الطولى في البذل والعطاء من نحو: (حر اليدين)، و(راعي الجمايل)، و( النشمي)، ناهيك عن بعض التراكيب التي جاءت في ثنايا شعرهم لتختصر منظومة القيم المتجذرة في نفوسهم ( النار للنزيل)، (ما يغلى عليه شيء)، (الدلة والفنجال) و (النار والهيل)، وهي رموز تختصر مفهوم الإنسان الكامل في ثقافة البادية.

       ولم تكن الصحراء في شعر الدياحين مكاناً جغرافياً فحسب، بل فضاء روحيّاً ووعاء للذاكرة، فهم يرون في رمالها بقاءهم، وفي قسوتها اختباراً للرجولة والصبر، ومن -هنا- تكررت صور (النجوم)، و(السراب)، و(الديار المهجورة)، و(الليل)، و(سهيل) في مفرداتهم الشعرية لتعكس شوق الشاعر إلى زمن الصفاء والبساطة، وإحالة ضمنية إلى ذلك الماضي العريق الذي تماهت فيه القيم مع النقاء، إنه حنينٌ من نوع آخر يُغرق في النزعة الوجدانية الأصيلة، ويحفل بالصدق والولاء، بل إنّه أغنيات حالمة شكّلت تراتيل الصحراء في مساء مهيب، يحمل بين أنغامه عبق المروءة، وحضوراً يُعيد تشكيل الذاكرة وفق آليات البقاء، وأمنيات الشعراء.

       ورغم غلبة الطابع الحماسي، فإن شعرهم لا يخلو من غزلٍ دافئٍ يمتزج فيه الحب بالعفة، والحنين بالحياء، ويحمل أبعاداً وجدانية تفيض صدقاً واحتشاماً، وكأن الشاعر يخشى أن يبوح بما يقدّسه من عاطفة.

      وتتسم لغة شعر الدياحين بالجزالة والوضوح، ولا عجب في هذا فهم ورثة الفصاحة البدوية التي تكره التكلّف وتأنف الزخرف، كلماتهم مستقاة من معجم البيئة الصحراوية تتصف بعمق التعبير، وجودة الانتقاء، وترابط السياقات، وخلوها في الغالب من الإحالات والإشارات الغامضة، لأنها تدلّ على صفاء التجربة، وصدق الانفعال، ولا يلجأ شاعرهم إلى الغموض الرمزي، لأن الشعر عنده وسيلة تواصل وجداني مباشر، ووثيقة ثقافية تحفظ تاريخ مطير وأحداثها، وتنقل القيم التي شكّلت وجدانهم، لذا فإن قصائدهم لا تمر عبر المتاهة البلاغية وأنظمة المجاز الموغل في البعد، بل عبر صدق التجربة وصفاء اللفظ، وهذا شأن الشاعر صاحب النزعة البدوية الأصيلة يواجه المعنى بجرأة ووضوح، وتتنفس صوره الشعرية من واقع الحياة، فيصبح شعره انعكاساً للعفوية وصدق الإحساس.