صناديق البعد الرابع!

آراء

خاص لـ هات بوست:  

   ثمة قصة ضمن المجموعة القصصية «القط الأسود» لإدغار آلن بو، تحمل عنوان «الصندوق المستطيل».

     بطلها ينوي القيام برحلة بين مدينتي تشارلستون ونيويورك، وستكتشف عزيزي القارئ من السطور الأولى وببساطة مربكة، أن رحلة كهذه كانت تستغرق آنذاك عدة أسابيع بالسفينة! بل إن بطل الحكاية يذهب لتفقّد الباخرة قبل يوم كامل من الموعد، الذي يتأخر بدوره أسبوعًا كاملًا بسبب الظروف غير المناسبة!

    أكدت لي خرائط السيد غوغل أن رحلة كهذه تستغرق اثنتي عشرة ساعة بالسيارة في يومنا هذا، أو ما يربو عنها بساعتين على متن قطار، أو ساعة واحدة بالطائرة ضمن رحلات ميسّرة يوميًّا.

     يا رب السماوات والأرض، لماذا يبدو أن الزمن كان يحلو له التسكّع والتثاؤب والتمطّي بكسل في تلك الحقبة – رغم أنها مرحلة ما بعد الثورة الصناعية الثانية – ثم جنّ جنونه الآن، وصار اليوم ينتهي قبل أن يبدأ؟!

    تتصاعد أحداث القصة التي أظنها تدور حول الفضول والتوقعات النمطية، في قبالة الواقع الذي قد يكون أمرَّ من المرار ذاته، وبطريقة صديقي القاص الماكر إدغار، الذي يعرف دائمًا كيف يخدّر حواس القارئ ثم يباغته بخاتمة غير متوقعة.

     يمسكنا من أيدينا ويركبنا الباخرة ذاتها، يعرّفنا إلى البطل من خلال فضوله الفج تجاه صديقه الرسام وزوجته التي يتفاجأ بقبحها وضيق أفقها، اللذين لا يتلاءمان مع رهافة الفنان وذوقه الرفيع، ولا مع وصفه الرائع القديم لها.

     أختاه الحلوتان الذكيتان عادةً وتصرفُهما بجفاءٍ غير مبرَّر أثناء الرحلة، ثم الغرفة الفارغة الفائضة عن الحاجة، والأهم من كل هذا الصندوق المستطيل الغامض، الذي يجزم بطلنا – بقوة حدسٍ يُحسَد عليها – أنه يحمل نسخة من لوحة العشاء الأخير لليوناردو دافنشي.

     كآبة الرسام وحزنه الشفيف، اللذان يعزوهما صاحبنا إلى ندمه على هذه الزيجة البائسة.

     ثم يا رفاق القراءة، لو أن رياحًا هوجاء وإعصارًا هائلًا لم يجد طريقه إلى سفينة التكهنات البلهاء ويغرقها، لما كنا لا كقرّاء، ولا كبطل قصة، ولا ككاتبها حتى، عرفنا أن الزوجة المزعومة ليست سوى خادمة، بينما الزوجة الجميلة الذكية المحبة ترقد بسلامٍ أبدي في الصندوق المستطيل، على أمل نقلها سرًّا لتُدفن عند والدتها، دون أن يتشاءم الركاب من وجود جثة على الباخرة.

     كل هذا والسفينة قد غرقت بالرسام، الذي جنّ جنونه ورفض أن يغادر صندوقه الأثير.

     واستؤنفت الرحلة الطويلة بمشقة على مراكب نجاة إلى جزيرة رواندك، بلغوها وهم في حالة أقرب إلى الموتى منها إلى الأحياء، بحسب وصف كاتبنا الذي يردف بأنهم مكثوا فيها أسبوعًا قبل أن يستأنفوا الرحلة إلى نيويورك، ولا يكلّف نفسه مشقة إخبارنا كم من الوقت لزم، مكتفيًا بتركنا حيارى مع طيف وجهٍ يتبع بطل الحكاية، وضحكةٍ هستيريةٍ مزلزلةٍ تقرع أذنه للأبد.

     لكن يا رفاق، في المرة القادمة عندما نسافر على رحلة طيران مباشرة من دبي إلى نيويورك بمقاعد درجة رجال الأعمال الوثيرة، أظن أنه يجدر بنا ألا نتذمّر من طول الرحلة ومشقّتها، حتى مع حقيقة أنني لو أحببت أن أكتب قصة مثيرة تدور أحداثها على متن هذه الرحلة، سأعدّ نفسي محظوظة إن ظلت قصتي عالقة بين صفحات الزمن، تُقرأ بعد قرنٍ أو أكثر، وتقع في يد قارئ مستقبلي، يزعم أننا أصدقاء، وينصح رفاقه ألا يتذمّروا من الرحلة ذاتها التي تستغرق في زمانهم رمشة عين!