كاتب إماراتي
نعيش اليوم في كم هائل من إعادة التدوير لما يطرح من صناعة السخف والتفاهة في عالمنا، حتى أصبحنا محاطين بكل أنواع الابتذال والاستهلاك اليومي لكل ما كان له محتوى ومعنى في حياتنا السابقة، من فنون وآداب وحياة اجتماعية راقية، وتبادل أفكار ونقاشات وفعاليات لها قيمتها العالية، وتضفي الجديد والمفيد من المعارف والعلوم، لكن حين انحازت الحياة الجديدة لصناعة السخف والتفاهة، توارى الناس الجميلون والفاعلون والمبدعون والمؤثرون في الحراك الاجتماعي، وظهر البديل الجاهل والفارغ، والذي تدعمه بعض مؤسسات المجتمع، وتخدمه وسائل الإعلام، فقط لأنه «ترند»، ولأن متابعيه بالألوف المؤلفة، وهم على شكله وشاكلته، هذا الذي سيسمى من الآن من المؤثرين في وسائط التواصل الاجتماعي، رغم أننا نجهل حقيقة تأثيره، إلا فيما يصدّر من بضاعة بائرة كلها غث، وشبيهة بزَبَد البحر، هذا المؤثر «اجتماعياً وإعلامياً» كما يقال عنه، لو تصور صباحاً مع فنجان قهوة باردة، وقطعة «كرواسان» بائتة، فستحظى مشاركته من المتابعين على مئات الألوف من كلمات الإطراء والإعجاب والمشاركة و«إعادة التدوير»، وكل الذي فعله تصوير فيديو بطريقة ساذجة، وظهوره بنظارة شمسية يحرص على إظهار ماركتها ليعزز مكانته الاجتماعية في قلوب محبيه، ومن يتخذونه قدوة في هذه الحياة، مع طاس قهوة لم يتذوقها، ولكنه أبدى إعجابه المبالغ فيه في نوع القهوة، وتصنيف المقهى، وأن كل شيء هنا، و«لا غلطة»!
طبعاً لو كان هذا المؤثر فناناً مطرباً أو ممثلاً، ممن يظهرون على خشبة المسرح أشبه ما يكون بظهور المصارعين الرومانيين، المدهونة أجسادهم بالزيوت، وحول رقبته سلاسل «مستر تي»، فإن المتابعة والمشاركة تتعدى الملايين، ولو اكتفى ذلك المستعرض بكحة مع حشرجة تبغ أو تثاؤب ينبئ عن وضعه الصحي غير الرياضي، وهو يخرج من باب سيارته الرياضية المكشوفة، مرسلاً قبلة في الهواء. هذا كل المحتوى الذي أراد هذا الفنان أن يرسله ويوجهه لمتابعيه الشغوفين بظهوره لا بما سيقوله. أما نجمات التواصل الاجتماعي فحدث ولا حرج، فهن غارقات في السخف والتفاهة من شعر رؤوسهن العِيرة إلى أخمص أقدامهن المحشورة في أحذية ثمن الواحد منها يطعم ويكسو ستين مسكيناً ويتيماً. كل ما تقدمه هذه «الفاشينيستا» ومَن على صورتها مِن محتوى لا يتعدى أكلات مطبخ لا تجيدها، وأخبار صالونات التجميل التي لا تفارقها، وسفرات خالية من فوائدها الخمس، لكنها لا تتحرك إلا بقوة «الدفع» الرباعي، ولا تنام قريرة العين إلا إذا ضمنت المسكن والمأكل والمشرب والمخدع، ولا تغرّد إلا إذا أمّنت حياضها، واستكملت متطلباتها، حينها تبث حيّاً صناعة السخف والسذاجة والتفاهة، غير مبالية بسواد الوجه!
المصدر: الاتحاد