كاتب لبناني
قبل أسابيع أعطى جورج طرابيشي مقابلة إلى مجلة «أثير» بعنوان «ست محطات في حياتي». وفي إحدى هذه المحطات يقول إنه ترجم شابًا أعمال سيغموند فرويد عن الفرنسية، وليس عن الأصل الألماني، والآن يرغب في العودة إلى تنقيحها بعدما تحصل عبر السنين الماضية على مزيد من العلم والمعرفة!
تلك صورة عفوية عن رجل أمضى عمره يحفر في ثقافات العالم، مثل عالِم آثار، لا يترك حبة رمل أو حجرًا أو حرفًا للصدف. اختار طرابيشي الجزء الأكثر صعوبة في العمل الأدبي: الفكر والبحث والجدل. واختار، صامدًا، الجزء الأقل شعبية في العمل الثقافي، كاتبًا ومترجمًا. واختار، خصوصًا، الجزء الأكثر علمًا والأقل شعبية ودخلاً. ومن بين نحو 300 كتاب في التأليف وفي الترجمة، لم يخرج عن القاعدة يومًا.
رأى البعض أن المفكر السوري، الذي نفى نفسه إلى باريس منذ أربعة عقود، أضاع كثيرًا من الوقت في متاهات لا ضرورة لها، منها النزاع الفلسفي الحاد مع المفكر المغربي محمد عابد الجابري. وقد أخذ الجابري الخلاف إلى مسالك شعبوية خارجة على أي سياق فكري. تاركًا لطرابيشي المرارة والخيبة، بما كان يعتقده حوارًا فكريًا سوف يترك أثرًا دائمًا في بحيرات الركود العربي.
تنقل طرابيشي مثل معظم أهل جيله في مراحل كثيرة من القلق والتحولات. وبدأ حياته بعثيًا، لكنه خرج من التجربة مبكرًا. ثم خرج من سوريا إلى لبنان، وبعد الحرب جاء إلى باريس يحمل البلدين تحت جناحيه، ويحمل خيبته بأحلام الأمة في قلبه. ولم يبقَ من صلة له معها سوى الكتب، والتكرس للغة تعلم الإبحار في أعماقها منذ طفولته في حلب.
وفي «محطاته» (راجع «العربية.نت») يقول باستسلام لما ارتضى لنفسه من نهج الحياة، إنه ليس له في الدنيا سوى زوجته وبناته. والزوجة التي رافقته منذ النشأة الحلبية، كانت أيضًا نصفه الثقافي، ولو أن الأمومة منعتها من غزارته النهرية في الترجمة والتأليف.
كنت من المعجبين بالدكتور محمد عابد الجابري. وفي الخلاف بين المفكرين، رأيتني إلى جانبه. ولما «اكتشفت» الدكتور طرابيشي متأخرا بعض الشيء، اكتشفت أيضًا أنه من الخطأ المحازبة في المجادلات الفكرية. دعهم يتجادلوا ويتألقوا، وتعلَّم.
المصدر: جريدة الشرق الأوسط