طفولة أمة

آراء

لكل رُشد ملامحه، وشكله، وصوره المتعددة، يغلب السفه أحيانا المجتمع، كما يعم الأفراد، حتى يعجز عن نفسه. من بعيد التفت نبي الله لوط يسأل عن رجل واحد رشيد يتحدث معه في مجتمعه، بين كل هذا الضجيج البشري الذي يحيط به. “أليس منكم رجل رشيد”. على الرغم من أنهم رجال في مراتب البلوغ، إلا أن الرشد غائب، وليس حاضرا، لقد حضر البالغون حوله، ولم يحضر الرشد، ولم يكن فيهم رشيد واحد.. إنها أمة من الناس، منيت بالجهل والسفه الغالب.

في فلسفة التاريخ لكل مجتمع مراحل النمو والتطور التي لا تختلف عن الفرد، طفولة، ومراهقة، ورجولة وقوة، ثم الهرم والضعف والشيبة. وقصة الحضارة في الإنسان والعمران هي فقط في عمر الدورة الزمنية، وطول كل مرحلة من عمرها الإنساني. إن أمة من الناس تعيش عمرها كله وهي في مرحلة الطفولة ولا تخرج عنها. إن عمرها أقصر من بلوغها الرشد.. إنها بحاجة إلى نبوة وعي غائبة، ولم يحالفها الحظ، بالولي المرشد الذي يقودها إلى سبيل الرشاد، وبعض المجتمعات تبلغ النضج ثم لا تعود إلى جهل الطفولة، وسذاجة الفهم، وتسطيح الوعي، وتبسيط الحكم على كل شيء، والفرح بالضئيل البسيط الذي يليق الفرح به إن صدر من طفل ساذج، حامل وعي ضيق محدود.

المسيحيون قتل بعضهم بعضا في قرون متصلة لأسباب دينية، بين الكاثوليك والبروتستانت، كل فريق كان يتقرب إلى الله تعالى بقتل أكبر قدر ممكن من المخالفين لمذهبه، حرق آلاف الأطفال أحياء، ودُفن عشرات الآلاف من النساء أحياء، وقتل الرجال صبرا، وحرقا، وتعذيبا بأعظم صنوف التعذيب التي يرتاع من هولها الشيطان الرجيم، وكان هذا كله بمباركة الكنسية في هذين الجانبين.

هلك الحرث والنسل، ومات الناس من الجوع، والحرب الدينية شرسة قاسية، لا تلوي على طلب رضا الله بقتل أعداد أكبر من المخالفين الضالين.

ثم بعد الملايين من الأرواح البريئة، التي مضت، عين القاتل قريرة، مطمئنة نفسه، بحسن المنقلب الذي سينقلب إليه بين يدي ربه.. أفاقت أوروبا، ونزل عليها رشد يبصر ما هو كائن، وما يمكن أن يستمر عليه، وكانت أول زغب البلوغ والنضج العقلي.. حينذاك توقفت أوروبا عن قتل نفسها، خرجت من طفولتها وجهلها، وقتل الناس بعضَهم، دفنت الكراهية، ألجم نقيق التحريض، ردمت مستنقعات التكفير، واستباحة النفس، أخيرا رجمت المستنقع، وقضت على كل البيوض الكثيرة في داخله. تم لأوروبا رشدها وبلوغها بعد مسافة غير قصيرة من الدم والقتل والأراضي الشاسعة التي تحولت إلى مقابر، كان يتقرب القاتل إلى الله بزيادة مساحتها كل يوم، وبصنوف القتل، وأشنع أنواعه.

الأمة الإسلامية اليوم تسلك ذات المسلك، وتتردى في ذات الجهل والعمى والطفولة الساذجة، فحين يرتفع شعار “أخوان سنة وشيعة هذا الوطن ما نبيعه” هو شعار جميل ورائع ولا بأس به، إلا أنه برغم جماله لا يختلف عن “لا تلقي النفايات من نافذة سيارتك”. يعني بكل بساطة أننا ما زال بيننا أطفال كثيرون في وعيهم ومعارفهم وفهمهم للدين. ولا تزال المسافة طويلة حتى نصل إلى مستوى البناء الحضاري والإنساني، والتركيز على تحديات الحاضر وبناء المستقبل. لكل عبد سبيل هو سالكه، والله وحده محاسب عليه، والله وحده الشاهد، وله وحده الرجعى، وإليه المنتهى والنشور، وبين يديه الثواب والعقاب.

ما زال كثير من المجتمعات العربية والإسلامية بعد تخطي هذه القرون المتصلة في مرحلة الطفولة وجهل التطرف، والتقرب إلى الله بالقتل، وتبريره، وجعله من أعمال القربى، وأفعال التقوى. فكم سنحتاج من الزمن لكي نبلغ مبلغ الرشد، ونصطفي من كلمات الله ورسالاته الهدى والخير والحب والرحمة للعالمين.

المصدر: الاقتصادية