كاتب ومحلل سياسي- لندن
حملة التلاطف الدبلوماسي بلغت أوجهها والأيام النيويوركية المقبلة قد تأتي ببعض المفاجآت، الغرب وإيران على وشك الوقوع في غرام طال انتظاره، في طليعة الأسباب مجيء حسن روحاني إلى الرئاسة، ليثبت إلى أي حد كانت الحقبة “الأحمدي – نجادية” مضيعة للوقت، فيما اعتبرها الجميع مرحلة كسب وقت للمضي في البرنامج النووي إلى أقصاه، وقد حصل، لكن يبدو أن الحصيلة النووية لم تكن بمستوى الطموحات خصوصاً إذا قورنت بما استدرجته من عقوبات، أهلكت الاقتصاد وأبطأت النمو والتنمية.
في النهاية أدركت طهران أن ساعة الواقعية دقت، وما حصّلته من أوراق سواء في الملف النووي أو في النفوذ الإقليمي بات كافياً للمساومة، وللتفاوض من موقع قوة، لا داعي لانتظار ما سيؤول إليه الوضع في سوريا، فأزمة التهديدات الأميركية الأخيرة – أظهرت للجميع حدود اللعبة، إذ ساهم النفوذ الإيراني هناك في حفز روسيا والصين على التعنت في بلورة قواعد جديدة لـ”النظام الدولي”، في الوقت نفسه بلغ الاستثمار الإيراني في “الورقة السورية” حد استخراج المصلحة منها قبل أن تنقلب إلى خسارة كاملة.
مع انتخاب روحاني جاء إبداء النية في الانفتاح، فضلاً عن إظهار رغبة في الاستعجال، لذلك كان لابد أيضاً من إشعار الغرب بالجدية هذه المرة، وبوجود سياسة مختلفة ينفذها أشخاص مختلفون، بل حتى بأن مرشد الجمهورية نفسه بات يعتمد لغة مختلفة.
لم يقل روحاني في حديثه إلى القناة الأميركية أنه يأمل أو سيحاول، بل قال إن لديه “سلطة كاملة” للتوصل إلى اتفاق بشأن الملف النووي، وقبل ذلك كان الإيرانيون شرعوا في تشغيل “المداخل” إلى سياستهم الجديدة: “تغريدات” على “تويتر” تتمنى لليهود عيداً سعيداً، إطلاق معتقلين سياسيين كما لو أنهم بمثابة “رهائن” يفرج عنهم في إطار مقايضة بشيء من تلميع الصورة في الخارج، فضلاً عن تخفيف مدروس للقيود على وسائل التواصل الاجتماعي.
وكانت سوريا أيضاً من هذه “المداخل”، إذ أن اللهجة التي استخدمتها إيران خلال أزمة السلاح الكيماوي كانت مصاغة بحيث يجدها الروسي والأميركي إيجابية، رغم بعض التصريحات النارية لجنرالات “الحرس الثوري”، ولم يجرِ “تصحيحها” كما حصل لتصريحين من روحاني ورفسنجاني، غير أن الموقفين “الخاطئين” هما اللذان عبرا عن السياسة الصحيحة، إذ ظهرت طهران على غير الصورة المعتادة والمتوقعة عندما شجعت النظام السوري على الاستجابة لـ”المبادرة الروسية” بالاستعداد لتسليم الأسلحة الكيماوية وتدميرها على ما في ذلك من مصلحة استراتيجية كاملة لإسرائيل، العدو الذي يقسم نظام الملالي يومياً بأنه يعمل لإزالته من الخريطة، وما كان سلاح ردع استراتيجياً في يد نظام دمشق، كان بالتالي في أيدي الإيرانيين، لكنهم وافقوا على التخلي عنه.
ما الذي تغيّر أيضاً في إيران؟ يقول أحد أكثر العارفين بدواخل النظام إن التغيير حصل في تفكير “خامنئي” وحساباته، وأنه هذه المرة لا يناور، كما فعل خلال عهد خاتمي، بل يتطلع إلى نتائج من الفرحة التي يمثلها روحاني.
لدى خامنئي معطياته التي جعلته، خلافاً للعادة، يذهب إلى مديح “المرونة”، لكن لديه سقوفه لن تلبث أن تظهر، ربما مع أول جولة من التفاوض، لعل أحد أبرز الحسابات أن العقوبات، وإنْ لم تضطر إيران للرضوخ، فإنها زادت اعتمادها على الروس والصينيين الذين جنوا أكبر المكاسب، لكنهم لا يمثلون أفضل الخيارات المستقبلية لإيران.
وإذا كان لها أن تحافظ على ما نالته في العراق وسوريا ولبنان، فلابد لها من أن تدخل حواراً مع “الشيطان الأكبر” سابقاً وحالياً، “الصديق المحتمل” لاحقاً.
خلال الشهر الأول من ولايته، استطاع روحاني أن يمهد أرضية جديدة للتفاوض مع مجموعة الدول الخمس زائد واحد، فهو لن يستأنف التفاوض من حيث انتهى في جولة ألما آتا الأخيرة، بل سيتجاوزه، فلا عودة إلى المساومة على نسب تخصيب اليورانيوم أو لمقايضة إغلاق مفاعل “فوردو” ببعض الحوافز أو العقوبات المخففة، يريد أن يذهب أبعد وأعمق وأسرع، ويتوقع من الطرف الآخر أن يعامله بالمثل، لكن بناء الثقة عملية صعبة وطويلة، والغرب متفائل بسلوك روحاني إلا أنه سيضعه أمام اختبارات يفترض أن ينجح فيها بشكل لا يدع مجالاً للشكوك، فمهمته الرئيسية الإقناع بأن إيران توقفت عن السعي إلى امتلاك قنبلة نووية، ولا يمكنه ذلك إلا بالخضوع لكل شروط التحقق والمراقبة لقاء رفع شامل للعقوبات بوتيرة متدرجة، سيكون على طهران أن تقدم تنازلات، فهذا هو المعنى المفهوم لـ”المرونة” ولو “البطولية”.
المصدر: صحيفة الاتحاد