على مدى الأيام الماضية، استعاد ميدان التحرير هيبته ووهجه ومعناه. مخطئ من يظن أن ما يحدث فى مصر ليس إلا شأناً مصرياً خالصاً. إنها مصر التى أراد لها الله أن تكون قلب العرب النابض بالحياة والمحبة والسلام. ولهذا فإن الحدث المصرى كان محل اهتمامنا اليومى فى الخليج ومتابعتنا وقلقنا. لقد تفاعلنا هنا مع كل لحظة عاشتها مصر وشبابها يصرون على الخروج من مأزق الأدلجة وما قادت له من تراجع وخيبة أمل! وما زال ميدان التحرير يحرضنا على التفكير والتأمل فى دروس مهمة أعطتنا إياها تجربة السنة الماضية التى اختزلت «السبع العجاف» فى سنة واحدة. وأهم تلك الدروس أن من يقدم «الأيديولوجيا» على «التنمية» لابد أن يفشل. ولو انشغل الإخوان بقضايا التنمية قدر انشغالهم بمحاولات الهيمنة على كل حراك المجتمع وكل مفاصل الدولة لما انتهى بهم المطاف تلك النهاية المحزنة. من لا يقرأ وعى شباب مجتمعه وهمومه واهتماماته إنما يبنى بينه وبينهم سداً منيعاً يفقده صواب الرؤية. ما بناه الإخوان فى ثمانين سنة هدمه مرسى فى سنة واحدة. وفى ذلك خير: لقد عاش الشارع العربى طويلاً يسمع شعارات تنادى بأن «الإسلام هو الحل». وإن سألنا: أى إسلام تقصدون؟ جاء الرد بالتكفير والتخوين والإقصاء. فكل جماعة تسعى لفرض «إسلامها» على الجميع بالقوة. وكل جماعة ترى فى نفسها الحق وفى غيرها الباطل. كأن لسان الحال يقول: أنا طريق الجنة وغيرى جهنم وبئس المصير! وظلم الدين الحنيف، بوسطيته وتسامحه ودعوته للعقل، بسبب من احتكر فهم الدين على فهمه هو، ومن سعى لتسييس الدين حباً فى الجاه والسلطة والهيمنة. فها هى الآن الشعارات تتهاوى أمام حقائق الواقع. وها هم شباب مصر يثبتون من جديد أن اليوم حقيقة جديدة وأن أمس قد ولّى إلى غير رجعة. وها هى مصر تفتح أمامنا، مرة بعد أخرى، أبوابا جديدة للأمل والتفاؤل.
لقد عز علينا- فى الخليج- أن تسعى جماعة ما، بأعوانها بيننا، لصنع هوة واسعة بيننا وبين أهلنا الكرام فى مصر. فسعى عصام العريان يعايرنا ويهددنا بالفرس وإيران النووية. وظل بعض تلامذته فى الخليج يغضون الطرف عن بذاءات لسانه أو يبحثون له العذر بعد الآخر. لكننا كنا على يقين بأن مصر كانت وستبقى أكبر من أن تختزلها جماعة أو حزب أو فكرة. انتفضت مصر على كل محاولات تقزيمها فى جماعة وإشغالها بقضايا ليست من صميم الهم المصرى وخارجة عن ثقافة المحبة والتسامح المصرى. فرحتنا فى الخليج بعودة مصر لدورها ومجدها نابعة ليس فقط من حبنا لـ«أم الدنيا» وثقتنا بأهلها ولكن لأننا- فى العالم العربى كله- بأمس الحاجة لأن تعود مصر إلى مكانتها الطبيعية قائدة وملهمة ومظلة لكل العرب. ومن واجبنا كلنا أن نمد يد العون والدعم لمصر فى مرحلتها الانتقالية الصعبة. وما ذلك سوى «أقل الواجب» تجاه مجتمع لم يعلمنا فقط أبجدية المحبة والسلام والإبداع ولكنه أيضاً ضحى بالكثير فى تجربة مريرة أكدت لنا من جديد أن الشعوب لا تحيا أبداً بالأيديولوجيات والشعارات الفارغة. إنه زمن العمل والعقل، وبغير ذلك لن تستطيع أمتنا أن تخرج من مأزقها الحضارى والتنموى. وها هى مصر العظيمة تفتح لنا فصلاً جديداً من فصول التفاؤل بمستقبل تقوده الحكمة ويحرسه العقل.
عاشت مصر.
المصدر: المصري اليوم