خاص لـ هات بوست:
للموت حكاية قديمة مع الإنسان، حكاية لا تشيخ ولا تتعب، تعود كل مرة بثوبٍ جديد، وتترك في القلب ندبة لا تندمل. لكنه حين يطرق باب المبدعين، لا يأخذ جسدًا فحسب، بل يطفئ ضوءًا، ويكسر جملة لم تُكمل بعد. هكذا جاء رحيل الكاتب والروائي السعودي أحمد أبو دهمان، موجعًا على نحوٍ خاص، كأن الفقد هذه المرة يعرفنا واحدًا واحدًا، وينادي أسماءنا بصوتٍ خافت.
رحم الله الأخ والصديق أحمد أبو دهمان، الذي لم يكن كاتبًا عابرًا في مشهد السرد العربي، بل كان حالة إنسانية وثقافية متفردة. كان محفّزًا على الكتابة كما لو أنها فعل حياة، وعلى الترحال كما لو أنه شكلٌ من أشكال المعرفة، وعلى السؤال الدائم عمّا يختبئ خلف الجبال التي تحيط بقرى الجنوب وبلداتها. لم يرَ في الجبل نهاية الطريق، بل بدايته، ولم يتعامل مع القرية كحدٍّ ضيق، بل كبوابة مفتوحة على العالم.
كان أحمد، أو “أبو نبيلة” كما يناديه محبوه، يشبه أولئك القرويين الطيبين الذين حملوا دفء الأرض في قلوبهم، واتساع الأفق في عقولهم. كأنه آخر سلالةٍ نبيلة من أبناء القرى؛ أولئك الذين كانوا يصغون للريح، ويحاورون الحجر، ويتأملون الجبال لا بوصفها عائقًا، بل سؤالًا مفتوحًا على الاحتمال. كانت روحه متفتقة على البحث، لا ترضى بالسطح، ولا تكتفي بالمشهد الأول، بل تذهب دومًا إلى ما وراءه.
قبل عامين، كتب لي أحمد وقد مرّ بقريتي، رسالة صغيرة في حجمها، عظيمة في معناها، قال فيها:
“أحب الوادي الأبيض… على يساري في الطريق إلى قريتي (آل خلف)، وعلى يميني في الطريق إلى العالم.”
لم تكن جملة عابرة، بل خلاصة فلسفة حياة كاملة. كان يرى أن الطريق لا ينقسم بين محلي وعالمي، بل يتسع لهما معًا. القرية عنده ليست نقيض العالم، بل شرط الدخول إليه. الجذور لا تعيق التحليق، بل تمنحه معنى.
في كتابته، كما في حياته، جسّد أحمد أبو دهمان النبل والحب والإبداع والوفاء. لم يكن صوته عاليًا، لكنه كان عميقًا. لم يلهث خلف الأضواء، بل ترك نصوصه تمشي على مهل، وتصل إلى القارئ بثقة من يعرف أن الصدق لا يحتاج إلى ضجيج. كانت روايته الوحيدة “الحزام” وسيرته السردية أشبه بجسورٍ خفية بين الجنوب والعالم، بين الذاكرة والأسئلة الكبرى، بين الإنسان ومصيره.
يرحل أحمد، ويترك خلفه فراغًا لا يُملأ بسهولة. يرحل، وكأن جزءًا من تلك القرى التي أحبها قد صمت فجأة، وكأن جبلًا خفّ وزنه لأن روحًا ثقيلة بالمعنى غادرته. لكنه، في الحقيقة، لم يرحل تمامًا. سيبقى في جمله، في تشجيعه الخالص للكتابة، في شغفه بالسفر والمعرفة، في عزلته الأخيرة، وفي تلك القدرة النادرة على أن تكون ابن مكانك، وابن العالم في آنٍ واحد.
سلامٌ على روحه، وعلى قريته، وعلى كل وادٍ أبيض مرّ به وأحبّه.
سلامٌ على الكاتب الذي علّمنا أن وراء الجبال دائمًا حكاية تستحق أن تُروى!
