كاتب سعودي
يمكن للمتابع العربي أن يحصي بشكل دقيق الأسماء التي تتعامل بعقلانية وحذرٍ مع القضايا والتحولات السياسية، ذلك أن طوفان الحدث يجعل الغرائز أقوى من الحسابات المنطقية، ومن ذلك التعامل التاريخي مع القضية الفلسطينية، التي لم يتم فهمها بطريقة سياسية بقدر ما استخدمت لأغراض آيديولوجية، استخدمتها الناصرية وحزب البعث في العراق وسوريا، والميليشيات الإرهابية الشيعي منها والسني، كما نجحت تلك التيارات المتطرفة في جعل القضية معياراً أخلاقياً على مشروعية الثورة أو الانقلاب أو النظام، وهذا عزز من المزايدات السياسية، ورفع سقف الصراع على فلسطين باعتبارها الممحاة لأخطاء أي نظام سياسي مهما كانت مجازره وجرائمه وكوارثه.. لنقرأ تفاصيل استخدام صدام حسين للشعارات العربية من أجل تعزيز قوة نظامه في كتاب صدر مؤخراً بعنوان «استجواب الرئيس» من تأليف المحلل في الاستخبارات الأميركية جون نيكسون.
أخذت قضية فلسطين منذ أواخر الأربعينات حضورها الطبيعي باعتبارها تشكل نقاشاً ضمن التاريخ والسياسة حول الحق والأرض، ولكن كان لعبد الناصر دوره الأساسي في جعل القضية معياراً أخلاقياً للمثقف بوصفه إما مع شعارات القضية أو هو من الخونة والعملاء الصهاينة، وضع فسطاطين للأنظمة والأفراد لأغراض آيديولوجية بحتة تفهم – فقط – بسياق صراعاته مع دول المنطقة، وقعت معظم الدول في الفخ، انتقلت القصة من الرأي السياسي إلى المعيار الأخلاقي. ثمة صوت كان منفرداً بغنائه، كان يعزف تقريباً لوحده، يعارض ذلك الاستخدام الناصري البشع للمأساة الفلسطينية، وهو المفكر السعودي عبد الله بن علي القصيمي، الذي كانت له رؤاه واستشرافاته السياسية، كتب عن الشعارات السياسية الخرافية منذ كتابه «هذي هي الأغلال» عام 1945.
استمر في هجومه على الشعارات السياسية في كل كتبه، وبلغ الذروة في منتصف الستينات حيث كتابه «كبرياء التاريخ في مأزق» (1966) ثم سلسلة «العالم ليس عقلاً»، ومنها «عاشق لعار التاريخ» (وفيه يشن هجوماً على عبد الناصر وحروبه وعرشه وجيشه) و«صحراء بلا أبعاد» و«أيها العقل من رآك». يروي رفيق دربه إبراهيم عبد الرحمن في كتابه «خمسون عاماً مع القصيمي» أن رفيقه: «لقي من أجل ذلك هجوماً عنيفاً من الثوريين الاشتراكيين والقوميين العرب، وعلى سبيل المثال ما كتبه رئيف خوري في عدد ديسمبر (كانون الأول) عام 1966 في مجلة (الآداب) التي أصبحت المنبر الرسمي للفكر القومي والاشتراكي، فقد كتب مقالاً طويلاً نشر على ست صفحات من المجلة تحت عنوان (كبرياء التاريخ في مأزق أو الفكر في السرداب المغلق)». وكان القصيمي قد استفز خصومه بمقالة تحت عنوان: «الزعماء الصراصير»، وفيها يقول: «إنه لو وجدت قوة قاهرة خفية لتنسف إسرائيل في ضربة واحدة ولحظة واحدة، في ليلة نامت عيونها ليفاجأ العالم كله ويفاجأ الشرق والغرب بزوال هذه الدولة، أو هذه العقدة الدولية، لكانت النتيجة حينئذ جد عجيبة، أي إن الغرب حينئذٍ سوف يسر بذلك أو يجب أن يسر ويشعر أن هماً ثقيلاً قد انجاب عنه… أما الشرق فإن موقفه وشعوره سوف يكون شيئاً آخر ومناقضاً جداً لما يظنّ ولما يتظاهر به، إنه لا بد أن يكتئب وأن يشعر أنه أصيب بخسارة كبرى، وأنه لا بد أن يحاول سراً إن استطاع مقاومة تلك القوة الخفية التي تريد أن تسلبه هذه الفرصة المركبة الأرباح: ربح الدعاية له والرضا عنه، وربح الدعاية ضد الغرب، والغضب عليه».
وكان القصيمي قد تنبأ بالهزيمة التي مني بها العرب بوجه إسرائيل عام 1967 لأنه كان يفكر بعقلٍ تحليلي، لا بغريزة عاطفية شاعرية، ولا بأبواق إذاعية، ولا ضمن دعاية المعاتيه السوشيالية. ثمة من يزعق الآن بوجه دول عربية معتدلة ليس لها أي دخلٍ بموضوع الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، لم يبق أحد لم يعلق على الموضوع حتى الفنانون الاستعراضيون كان لهم تنديد معلن تجاه القرار الأميركي حول القدس، بمعنى أن القصة صارت تبدو للتسلية والثرثرة، لكنها مع القصيمي لم تكن كذلك، فقد تنبأ بهزيمة «الديكتاتور» في كتابه الصادر عام 1966 «العالم ليس عقلاً» وفيه يقول: «إن انتصارات الديكتاتور وهزائمه مأخوذة من حسابات الجماهير، دعاياته الهائلة الباهظة ومظاهراته وصهيله، ومؤامراته ومغامراته، كل ذلك يُدفع من حسابات المجتمع». هذه النبوءة يستعرضها المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري في أطروحته «الفكر العربي وصراع الأضداد» ضمن فصل بعنوان: «المشروع التوفيقي للحركة الناصرية» أطروحته للدكتوراه طبع عام 1996.
بلغت ذروة ملل القصيمي من الإرث القومي المزعج بإصداره من باريس عام 1977 كتاباً تضمن مرافعة وإدانة واحتجاجاً عاصفاً وهجوماً غير مسبوق على التيارات العروبية، وذلك تحت عنوان: «العرب ظاهرة صوتية».
المسألة باختصار أننا نحتاج إلى مفكرين مستقلين يقومون بتمشيط الآثار الباقية والمترسبة والمتوارثة عبر السنين، في وقتٍ أصبحت فيه القضايا فرصة للكذب الصراح، والافتراء البواح، الدول التي تطبّع مع إسرائيل تزايد علينا بالإعلام والصحف من خلال زعقٍ مستفز يستخف بالعقول، يجب أن نكذب هذه الخطابات وأن نحاربها بكل الوسائل، وأن نخوض حرباً شرسة تجاهها، حتى تثق مجتمعاتنا بنفسها بوجه تلك المزايدات الرخيصة من دول إقليمية ديكتاتورية.
في كتابه «دفاتر الأيام» يعيد يوسف الخال نشر يومياته، وفي الخامس من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1972 يتحدث عن صديقه القصيمي قائلاً: «الرجل ظاهرة في تاريخ الصراع العربي من أجل الحرية والوجود، لا يقل وطأة وغرابة وهولاً عن سقوط كوكب، أو انخساف جزيرة في البحر، لكن هذا التاريخ ظنينٌ بمثل هذه الظواهر، فلا عجب أن لا تؤثر فيه ظاهرة القصيمي، أكثر مما تؤثر اللمسة في جرحٍ قديم».
المصدر: الشرق الاوسط