التفكير المؤدلج ينطلق أصلاً من أفكار معلبة لا تخضع لتحليل أو نقد أو مراجعة. تؤخذ كمسلّمات غير قابلة للنقاش أو الاختلاف. تُتداول كمقدسات يسهل تكفير أو إقصاء من يختلف معها أو يعمل على تفكيكها. لهذا يصبح “الحوار” مع الإنسان المؤدلج مضيعة للوقت لأنه غالباً يعامل الآخرين من موقف قطعي، إما أسود أو أبيض، معي أو ضدي. الحق المطلق معه والباطل الواضح عند من يخالفه.
للأسف يبقى خطابنا الديني في العالم العربي تحديداً هو المؤثر في طريقة التفكير لدى قطاع واسع من الناس، ولعله أسّس لهذه الحدة في التعامل مع الرأي المختلف. فثقافة الإقصاء الصريح المهيمنة على المشهد العربي ليست وليدة الأحداث الراهنة، فهي تشكّلت وتعمّقت على مدى قرون تم خلالها توظيف الدين للهيمنة وقمع الرأي المختلف، وقد وُصِمت محاولات فردية لتفعيل العقل بالتكفير والإقصاء بحجة أنها تُوقع في “حبائل الشيطان”! والطريف أن كثيراً من أسماء “الأعلام”، التي يتباهى بها المسلمون عند الحديث عن إسهام المسلمين في الحضارة الإنسانية، عانت من ويلات المسلمين الكثير. كُفرت وشُردت وقُتلت. وما مآسي علماء المسلمين ومفكريهم على أيدي المسلمين أنفسهم (ابن سينا وابن رشد وابن عربي، على سبيل المثال)، إلا شواهد على محاربة المؤدلجين دينياً لكل صوت يدعو للتفكير الحر والانفتاح على الآخر والبحث في آفاق المستقبل. وما يحدث اليوم ليس سوى حلقة متأخرة من مسلسل طويل صودر خلاله كل رأي يحتكم للمنطق، وعوقب كل صوت حاول تحرير العقل من هيمنة الأساطير وحكايات المهرجين والمشعوذين.
المؤسف أن الدين الحنيف استُغل كثيراً كمبرر للقمع والإقصاء وتمرير الأفكار المتخلفة والمعادية للتسامح والتعايش والتنوع، وها نحن اليوم في أسفل قائمة الأمم حضارياً وفكرياً. ولا خيار أمامنا، إن أردنا الحياة، سوى تفعيل العقل وتغليب النظرة للمستقبل. والخطوة المهمة للبدء أن نحرر عقولنا أولاً من خرافات الماضي وصراعاته. إنها فعلاً مسألة حياة أو موت للأمة بأكملها.
استسلمنا قروناً طويلة لإرهاب أصحاب الفكر الأحادي الإقصائي، فاستمر تراجعنا فكرياً وتعمقت هزيمتنا حضارياً وتواصل تخلفنا على أصعدة العلوم والاقتصاد والفنون. جربنا الخطاب المؤدلج طويلاً فزادت معاداتنا لأنفسنا والعالم، واستمرت قطيعتنا مع الحاضر، واتسعت الفجوة بيننا وبين المستقبل. ألم يحن الوقت بعد لأن نخوض تجربة جديدة نستمع فيها لأصوات العقل من مفكرينا ومثقفينا التنويريين الذين يقدّمون العقل على العاطفة، ويعتمدون المنطق بدل الخرافة؟ لا حل أمامنا كأمة سوى البحث عن آفاق إنسانية رحبة في خطابنا الديني، وأن نركز عليها في مناهجنا وبقية خطاباتنا، بدلاً من الاستمرار في سرد أحداث تاريخية ملتبسة يسهم اجترارها في كراهية الآخر ومعاداة العالم كله. وعلينا السعي بجدّ لاستعادة الوجه الإنساني لديننا الحنيف بعد أن اختطفته جماعات التكفير والتخلف، حتى ظهرت أصوات من داخل العالم الإسلامي نفسه محتارة في دينها، محرجة من نفسها.
فهل من العقل أن تُعطى المنابر لأصوات نشاز تتوعد علانية، باسم الإسلام، أن تحول العالم كله إلى دمار، وأن تعيدنا إلى عصور الغزو والنهب، وأن توزع غير المسلمين غنائم وسبايا وبضاعة في أسواق النخاسة؟ وبصعود هذا الخطاب المعادي للتعايش ولكل شيء جميل في الحياة، بأي منطق نتساءل: لماذا يكرهنا العالم ويتوجس في أمرنا؟ وإن استمر انسياقنا وراء أصوات الفتنة في مجتمعاتنا، فكيف لنا أن نتساءل عن أسباب ظهور تنظيم “داعش” وأمثاله؟ وكيف لنا أن نقنع أنفسنا والعالم بأننا جادون في الالتحاق بالأمم المتحضرة نحو مستقبل لا مكان فيه إلا للغة العقل وخطاب المنطق؟
المصدر: صحيفة الحياة