كاتب وصحفي لبناني
بعد مئة سنة سيقرأون في كتب التاريخ:
في مئوية «المؤامرة» السرية التي أنجبت اتفاق سايكس- بيكو، وقسّمت تركة الإمبراطورية العثمانية، أطاحت مناطق في العالم العربي الديكتاتورية والدولة العميقة نجت، ومعها استطاع قطبان إدارة لعبة الأمم، وأما أبطال معارضات فأصبحوا أباطرة للنهب. الديكتاتور أفرغ الكثير من خزائن الدولة، الأباطرة كانوا أدهى، فلنضالاتهم ثمن. وهكذا كان لا بد من تجفيف منابع الثروة الوطنية.
بعد مئة سنة، سيقرأون في كتبنا أننا برعنا في قلب الحقائق أكاذيب وأوهاماً، وودّعنا العقل تحت سحر الغرائز… ادّعينا الطهارة، ورجمنا كل من يخالفنا الرأي بألف حجر وخنجر. اتهمنا الغرب والشرق بسرقة ثروات العرب والمسلمين، وبعد كل ديكتاتور أُزيح من القصر، تحركت جحافل زبانيته، وبعضها «شعبي»، لمصادرة الدولة وأرضها وما عليها، استباقاً لـ «مؤامرات» الأغراب!
بعد مئة سنة، سيقرأون في كتبنا، أن شعوبنا التي تعايشت مع الديكتاتوريات وأشباه الديموقراطيات لعقود من الزمن، متخليةً عن حريتها وقرارها، طمعاً بالرغيف والجامعة، اقتيدت عنوة إلى محارق الميليشيات والطوائف والمذاهب التي استخدمت سلاحاً في ذروة حروب التضليل. وأن شعوبنا التي خرّجت أجيالاً في المعاهد والجامعات، ارتضت صاغرة رفع رايات مذابح، ثأراً لتاريخ بلا قاع، ورفع أعلام الخرافات، وترديد أناشيد الجهل، وقرع طبول داحس والغبراء، لا لصد صواريخ عابرة للقارات من الشرق البعيد أو من ضفاف الطامعين بجرّنا إلى فلكهم، بل دفاعاً عن سلطة «أمراء» الدويلات الصاعدة.
مَنْ يمكنه أن يتخيّل خرائط العرب بعد مئة سنة، كم سورية ستكون وكم عراقاً؟… أي قبيلة ستكون لها الكلمة في ليبيا؟ كم شريكاً يختار مدّعو الغبن والظلم والإقصاء، حلفاءُ إيران في اليمن؟
مئة سنة على سايكس- بيكو. هم تآمروا ورسموا الخرائط، ونحن ارتضينا صاغرين، تكفينا دولنا وأعلامها، يكفي الرؤساء سلاح تعبئة الشعوب الوطنية ضد «المؤامرة». بعد عقود، قد يعرفون كم جاسوس تخرّج في معاهد الديكتاتوريات العربية. قد يلمع نجم ويكيليكس عراقي أو سوري أو ليبي، ليفتح مناجم الظلام والبؤس، ولكن أي عبث؟
بعد بن لادن والظواهري وأبو بكر البغدادي، و «القاعدة» و «داعش» والسرايا التي توزع على الجميع، حيزٌ واسعٌ في اللائحة لـ «أمراء» الميليشيات «الوطنية» التي ستحرس الخرائط الجديدة. هل كان سهلاً تخيل قدرة تنظيم على الضرب في سيناء وصحراء ليبيا وسورية المنكوبة والعراق المفتّت وعدن الجريحة… في آن؟
في زمن عولمة الميليشيات وأباطرة النهب، هل يبقى مبرر للتساؤل عمّا فعله شباب العرب وخريجو الجامعات الذين تمرّسوا على إشغال العقل وتدبيره؟ عما فعلوه لمقاومة جحافل الجهل واللصوص الذين يدّعون الطهارة ويرجمون غيرهم بالكفر، فيما عيونهم على مشاريع سلطة هي الوجه الآخر لـ «دولة» البغدادي.
مئات الألوف، على مدى عقود، طلّقوا دنيا العرب، هاجروا إلى المستعمر القديم «الديموقراطي». أوطان «تطرد» أبناءها، كم سيُهجَّر قبل هزيمة «داعش»، وتوديع سورية الحرب، وحسم هوية الدولة والنظام في العراق… وخريطته؟ كم سيبتلع البحر المتوسط بعد من المهاجرين الهاربين من لعنات الفقر ومافيات الحروب و «أمرائها»؟
من باب المندب إلى «أبي نواس» في بغداد، من أربيل ودهوك إلى عدن وتعز، وطبرق وبنغازي، كم يتغيّر تاريخ العرب، كم مؤرخاً سيجرؤ على كتابته، إذا انتصر الجهل؟ أليست في المنطقة دول ما زالت حائرة منقسمة على تعريف حقبات مظلمة؟
ولكن، لماذا نُدْمن الندب؟ هنيئاً لعلمائنا الذين فروا بجلدهم وعقولهم ليسلموا من عصور الجهل… وأما نحن فلنتفرج ونحصِ الحدود التي تتهاوى. فمن يدري، ما الذي سيُكتب عن «مؤامرة» ما بعد «الربيع العربي». أدمنّا دور المتفرّج، والحلبة شاسعة، ما زال هناك الكثير المتاح للنهب، والمزيد من النعوش.
المصدر: الحياة