كاتب سعودي
من كان يصدق أن منفوحة دار الأعشى (صناجة العرب) تتحول إلى تلك الحالة التي ظهرت عليها في مقاطع الفيديو التي توثق أعمال الشغب التي قام بها بعض الأفارقة من مخالفي نظام الإقامة، لقد مررت بهذا الحي التاريخي مرتين – الثانية كانت بالخطأ – وكان بين الزيارتين الخاطفتين أكثر من 20 عاما وفي كل مرة كنت أشعر بحجم الغربة التي يعيشها شيخنا الأعشى بين قومه وناسه، هل كان الأعشى حقا ضعيف البصر أم أن المسؤولين عن تخطيط العاصمة هم الذين لا يبصرون ولا يرون كنوز التاريخ من حولهم؟!،
كنت أقف مذهولا أمام الدكاكين الصغيرة والشوارع الضيقة وأسأل نفسي عن السبب الذي يدفع مخططي المدن ومبرمجي الأنشطة السياحية في بلادنا لبناء منشآت ذات ديكورات ورموز تحاكي الماضي البعيد بينما تهمل الأحياء التاريخية الحقيقية وتترك دون أدنى التفاتة فتتحول بيوتها إلى مأوى للعمال المتسللين والمخالفين لنظام الإقامة فتتعرض للتكسير والتخريب الذي يشوه وجهها الحضاري فتتحول إلى عبء كبير على المدينة بدلا من أن تكون ضميرا ثقافيا لها.
لو كان ثمة حي عمره ألفا عام في أي عاصمة أوروبية لأصبح هذا الحي هو القلب السياحي والثقافي لهذه المدينة، ولكن هذا لا يحدث في ديارنا فقد تحولت منفوحة في بداية الطفرة المالية إلى حي شعبي تسكنه العائلات السعودية المهاجرة حديثا إلى الرياض، ثم أصبح هذا الحي مقرا للعديد من الجاليات العربية التي لا تستطيع السكن في أحياء الرياض الحديثة، وشيئا فشيئا بدأ الحي باستقبال العمال المتسللين من مختلف الجنسيات والعمال الهاربين من كفلائهم، كثر الغرباء وضاقت الحارات القديمة أكثر فأكثر، وهكذا حتى تحول الحي التاريخي إلى منطقة موحشة وخطرة تتردد حتى الدوريات الأمنية في دخولها مثله مثل كثير من الأحياء القديمة التي تجاوره، ومثل أحياء وسط جدة القديمة التي يعتبر من يدخلها مفقودا ومن يخرج منها مولودا.
مشكلة منفوحة الأخيرة لم تبدأ في زمن الأعشى بل بدأت منذ عشر سنوات فقط أو ربما أقل، وهي تشبه مشكلة حي غليل في جدة والعديد من الأحياء المختطفة من قبل العمالة السائبة في مكة والدمام والعديد من الأحياء المشابهة في هوامش المدن في سائر أنحاء البلاد، مشكلة بدأت قديمة مزمنة تراكمت تعقيداتها مع مرور السنوات حتى أصبحت حلحلتها عملية شبه مستحيلة، كانت الصحف تنشر بشكل شبه يومي قصصا مصورة من هذه الأحياء التي تصبح ليلا خارج سلطة القانون، وكنا نقرأ شكاوى أهالي المدن الجنوبية الذين يعانون من المستعمرات التي يقيمها المتسللون حول قراهم وبلداتهم، وكانت الصور تتدفق يوميا لمصانع الخمور وأوكار المخدرات بل ومصانع الأطعمة والألبسة ومواد البناء التي لا يحتاج عمالها أي ترخيص كي يصدروا منتجاتهم إلى الأسواق، فوضى خلاقة لم تثر في يوم من الأيام اهتمام الجهات المختصة، لذلك كان من الطبيعي أن تكون عملية اجتثاث هذه العمالة من الأحياء الشعبية مصحوبة بالكثير من المخاطر.
منفوحة ليست وحدها بل ثمة (منفوحات) في كل المدن الرئيسية حيث الأحياء القديمة التي كان من المفترض أن تكون الشاهد الأول على أصالة الهوية فأصبحت أكبر شاهد على ضياع الهوية، والمواجهة التي بدأت متأخرة لن تحقق النتائج السحرية التي نبحث عنها ولكنها خطوة في الطريق الصحيح وتحتاج من القائمين عليها المزيد من الإصرار وتطبيق القانون على الجميع دون تفرقة كي يستطيع الأعشى التعرف على قريته العربية الضائعة في مجاهل أفريقيا !.
المصدر: عكاظ