كاتبة سعودية
انفرجت أساريره وأشرقت من وجهه فرحة لم يشعر بمثلها حين أُعلن اسم ابنه «سالم» مذيلاً باسمه ليتردد صداه تحت سقف أعرق الجامعات في العالم «جامعة هارفارد» التي تخرج فيها أكبر عدد من المبدعين الذين حصلوا على جوائز نوبل، أخذته صورة المبدعين الذين سبقوا ابنه واقتنع في قرارة نفسه بأنهم مجرد زملائه السابقين، فراح خياله مع مسيرة الطلاب ليتراءى له فرانكلين روزفلت على يمين «ابنه» وجون كيندي على يساره يلوحان له مبتسمين وبجوارهما بيل جيتس ومارك زوكربيرج يتدافعان من أجل الجلوس بجوار «ابنه» الذي انشغل عنهما بالتصفيق لباراك أوباما وهو يتسلم شهادة التخرج، كان يُحلق مع نسيج أفكاره ويتفنن في رسمها حول صغيره، وبات مقتنعاً بأن ابنه سيحصل يوماً ما على جائزة نوبل أيضاً التي تنتظره في طيات مستقبلٍ باهر، تنبه إلى منظر زوجته تصفق بحرارة ودموعها تبلل وجهها، فقام من مقعده يصفق ويصفر ويلتقط عديداً من الصور دون توقف ويرفع صوته بـ «تهانينا سالم»، شعر بحرارة ونشاط يتدفقان في عروقه في اللحظة التي تسلم فيها ابنه الشهادة وهو يصافح عميد الجامعة، فأخذ ينظر باتجاه الناس حوله بطريقة هستيرية «هذا ولدي الصغير»، ويصفق بحرارة إلى أن احمر كفَّا يديه..
انتهت المراسم وارتمى كل خريج في أحضان أسرته ، فوقف الأب فاتحاً ذراعيه باتجاه ابنه الذي تجاوزه ليرتمي في أحضان أمه يقبلها ويبكي بين يديها، اقترب «الأب» منهما منتظراً أن يأخذ دوره في هذه الأحضان الجميلة المرتجلة ذات الطعم المميز، فربت على كتف صغيره محاولاً سحبه في أحضانه، ولكنه امتنع عن الاستجابة برفق ودفن وجهه في صدر أمه ليخفي دموعه داخلها، وبعد أن اكتفى من أحضانها التي بعثت في نفسه الطمأنينة وأعادت له التوازن كالعادة، رفع رأسه وقبلها على جبينها وهمس «شكراً يا أمي.. هذا من فضل ربي أن أعطاني أمًّا عظيمة لم تتخلَ عني في لحظات ضعفي أو زلاتي»، فسقطت دموعه مرة أخرى.. فوضعت الأم كفيها على عينيه ومسحت دموعه سريعاً وهي تحاول أن تتماسك ورفعت رأسه بين يديها ونظرت إلى عينيه مشجعة وقالت: «تهانينا يا بني، هذا ما كنت تحلم به.. فاستمتع بجني ثمار مجهودك»، قبَّل رأسها والتفت نحو بقية إخوته يعانقهم متبادلاً معهم كلمات المزاح. شعر الأب بضغطة قوية في صدره، وظل مكانه ينظر إليهم كالغريب الذي لا ينتمي لكل تلك المشاعر الدافئة التي كان أفراد أسرته يتبادلونها.. وتملَّكه إحساس بالحرج كالمتطفل على جيرانه، وفي لحظة، أومأت الأم برأسها باتجاه الأب تنبه سالماً، فتوجَّه نحوه وعانقه بشكل سريع ليجثم بعدها شيء ثقيل على صدره، وعلى الرغم من أن ابنه تمتم بكلمات ليشكره ويثني على دوره، إلا أنه كان عناقاً عابراً وخالياً من المشاعر الحميمية التي كان يشاهدها من دقائق، وتمنى أن يكون جزءاً منها، أُغلقت أبواب قلبه المنشرح وبدأ يشعر بضيق يكتم أنفاسه، وجد نفسه يسير خارج الجامعة، وما إن خرج إلى الهواء الطلق حتى استنشق نفساً عميقاً أعاد له الإحساس بنفسه من جديد فهدأ.
جلس أمام المدخل سارحاً.. فتراءت له صورة أبيه في الأفق وهو يساعده على التوازن حين بدأ بركوب الدراجة، بعد أن شجعه بالتخلي عن العجلتين المساعدتين وهو في الصف الرابع، فكان أول إنجاز له حين كان صبياً، استحق بعدها مثلجات والده اللذيذة التي كان يعدها بنفسه بنكهات مختلفة وألوان جذابة، أثارت الذكريات نكهة تلك المثلجات في فمه لوهلة، فتذكر المرة الثانية التي فاز بها حين تمكن من الطفو فوق الماء والسباحة بمفرده، تركت تلك المثلجات البسيطة أثراً جميلاً في ذاكرته، حيث كانت حاضرة في يد والده في نهاية كل إنجاز يحققه، بل كان كل شيء مهم قام به في صغره بتشجيع من والده الذي كان ينتظره بقلق في نهاية سباق اختراق الضاحية عندما شارك فيه وهو في المرحلة المتوسطة، وحقق المركز التاسع، فلم ينسَ كيف جلس والده على الأرض بعد أن ناوله جائزته من المثلجات وأخذ يدلك قدميه بالماء، بينما شعر هو بحجم الإنجاز الذي حققه حين كان نصيبه تلك المرة قطعتين انشغل بالتهامهما بسعادة أنسته آلام قدميه، تدفقت ذكرياته المليئة بالأوقات النبيلة والممتعة مع والده حتى أجبرته على النهوض من مكانه ليبتسم ابتسامة رضى في لحظة، ممتناً لنكهة وحلاوة تلك الذكريات، ثم تغير وجهه في لحظة أخرى حين عجز عن تذكر متى علَّم ابنه ركوب الدراجة، أو متى علمه السباحة، كان يتذكر أنه ساعد ابنه البكر فقط في أكثر من حدث، ولكن أبت ذاكرته عن استحضار أي حدث يربطه بصغيره وبعض إخوانه، ولم يستحضر سوى صوت زوجته وهي تخبره يوماً بعد يوم بأن «ابنه بدأ يتكلم، وأول يوم له بالمدرسة، ويوم سقوط أول سن، ويوم انتقاله من المرحلة المتوسطة، وفي اليوم الذي حصل فيه على رخصة قيادة، ولم يتمكن من تذكر أو استحضار من علمه القيادة!» عاد الإحساس المؤلم يتسلل إلى نفسه ثانية بعد أن بددته ذكرياته العذبة مع أبيه، وأخذ يصارع نفسه ليعترف بصمت بأنه أنهك زوجته كثيراً وحمَّلها فوق طاقتها، حيث اعتادت أن تغطي فترات غيابه دون توقف وتمنحه العذر في اللحظات التي يعود فيها إلى البيت ويرتمي على أقرب أريكه ليغط في نوم عميق …….
لا تفقد التوازن بسبب عملك على حساب أسرتك مهما كان السبب، ولا تُعطِ لنفسك مبررات لتشفع لك في تقصيرك في حقوق من ينتظرونك في المنزل، ولا تستخدم العمل أو توفير القوت كذريعة تبرر بها إهمالك الذي لا تشعر به في غمار انشغالك بتحقيق أهدافك الخاصة، واجباتك ليس من العدل أن يضطر شخص آخر للقيام بها، تدارك الأمر قبل أن تفقد هويتك وتصبح كالغريب في أحد الأيام بين أهلك!.
المصدر: صحيفة الشرق