كاتب وأستاذ جامعي موريتاني، له كتب ودراسات عديدة منشورة في ميادين الفلسفة المعاصرة وإشكالات التحول الديمقراطي.
سئل الشاب التونسي الصغير العائد من جحيم «داعش»؛ لماذا خاطر بنفسه في هذه الحرب المجنونة، فأجاب بكل براءة أنه كان يبحث عن عمل بعدما سدت أمامه آفاق الوظيفة، فأراد الخروج من تفاهة العيش الفارغ ورتابة اليوم الضائع. لا يعرف الشاب العائد شيئاً عن الوضع العراقي ولا تهمه عدالة القضية، بل لا تحركه الدوافع الدينية، وإنما أراد إثبات رجولته وفاعليته ومنح معنى لحياته الفارغة.
لا يخفى أن الحرب حاضرة بقوة في المخيال الرمزي العربي، فهي لوحة إسقاط كل معاني الفحولة والشجاعة وقيم المروءة والنجدة والتضحية. في المخيال العربي العام يحضر رمزان قويان: عنترة شاعر القبيلة الذي يقتحم الموت باسماً للدفاع عن شرف العشيرة، وخالد سيف الله المسلول على أعدائه الذي يستميت في الدفاع عن العقيدة والأمة.
وفي العصر الحاضر دخلت إلى المخيال حروب التحرير الوطنية وعلى الأخص حرب الجزائر بشهدائها الذين تجاوزوا المليون، ثم الحروب الفلسطينية التي ألهبت خيال آلاف الشباب العربي الذين تطوعوا للقتال في مخيمات المقاومة في لبنان.
أنماط جديدة من الحروب بدأت بما عرف بالجهاد الأفغاني في الثمانينيات، قامت على مفهوم «الحرب الدينية المقدسة» لمواجهة «الغزو الشيوعي الإلحادي»، وانتهت في سياق الحروب الأميركية في أفغانستان والعراق إلى تكريس عولمة «الجهاد وتحويره إلى العمل الإرهابي الانتحاري الذي شكل» تنظيم «القاعدة» محطة كبرى في مساره المتصل.
ما يتعين التنبيه إليه هو أن نموذج «الجهادي» (نستخدم العبارة هنا خارج دلالتها الشرعية الدقيقة) يختلف نوعياً عن نموذج «المقاوم» الذي كان متشبعاً بقيم الفروسية العربية بما ترمز له شخصية الأمير عبد القادر الجزائري التي سحرت أعداءه الفرنسيين، كما أنها تختلف عن نموذج «الثوري المناضل» الذي ارتبط بحروب المقاومة الفلسطينية.
ما تفتقر إليه «الحروب الجهادية» الأخيرة هو المشروع السياسي وأخلاقيات العنف، إنها حروب تدميرية عدمية تعكس الانهيار الذي مَس المنطقة وتستفيد من آثاره المأساوية، ولذا فهي تستميل أنماطاً جديدة من المحاربين: ضحايا الدولة القمعية المتحللة والحروب الأهلية العنيفة، والمتطرفون الراديكاليون العازفون عن العمل السياسي السلمي، والشباب الأوربي المحبط الباحث عن مغامرات جنونية في مسارح الموت.
من الُخلف تفسير «الحروب الجهادية» الأخيرة بالعامل الديني، فغني عن البيان أن حروب المقاومة الوطنية ضد الاستعمار التي استمدت شرعيتها ورمزيتها من المعجم الجهادي الإسلامي، لم تستخدم الأساليب الانتحارية العنيفة ولم تمل إلى الأساليب الوحشية، بل راوحت بين الاحتجاج السلمي والمواجهة المسلحة المشروعة.
وفي كتابه الهام «حالات العنف: رسالة في نهاية الحرب»، يبين الفيلسوف الفرنسي «فردريك غروس» أن أصناف العنف الجديدة في العالم لا يمكن تصنيفها في خانة الحرب بمفهومها التقليدي المألوف، سواء تعلق الأمر بأرضية المواجهة أو بطبيعة الفاعلين أو زمنية أو معيارية الصراع المسلح.
وفي حالات العنف الجديدة، لم يعد مسرح الحرب هو الحدود أو المساحات الفارغة بل قلب المدينة وأحياؤها السكانية ومرافقها الحيوية، ولم يعد الفاعلون هم أفراد الجيش المهني المنظم بل أشكال شتى من التنظيمات والمجموعات المسلحة بما يقضي على ثنائية العسكري والمدني، كما أن القوانين والتشريعات الضابطة للاقتتال لم يعد لها أثر، ولم تعد ثمة فروق وحواجز دقيقة بين لحظتي الحرب والسلم في زمنية العلاقات الإنسانية الجماعية.
ومن هنا ندرك المأزق الذي يواجه القوى الدولية المنظمة في تصديها لهذه الحروب الجديدة من منطلق مفهوم «التدخل» الذي تستخدمه بديلا عن عبارة الحرب التي اختفت من الشبكة المعيارية القانونية الحديثة ما دامت شرعيتها محصورة في الحرب الدفاعية ضمن ضوابط القانون الدولي ومؤسساته.
كان الفيلسوف المعروف «ميشل فوكو» قد اكتشف في أعماله الأخيرة أن المجتمعات المعاصرة انتقلت من أفق الحرب إلى أفق الأمن، بما يعنيه هذا الانتقال من تغيير جوهري في أدوات الحكم وأنماط تدبير وتسيير السكان بل وفي طبيعة العقل السياسي ذاته. من هذا المنظور، ندرك كيف أن أعتى الحروب الأخيرة حملت شعار التدخل الإنساني لتأمين البلدان والناس، وما بينته الأحداث الأخيرة في المنطقة (مواجهة «داعش») هو حدود استراتيجيات الحروب الأمنية في مواجهة الموجات الجديدة من الحركات المتطرفة العنيفة.
المصدر: الاتحاد