تصريح خاص وحصري للترجمة والنشر في “الهتلان بوست”
ترجمة: الهتلان بوست
الزبيدات، الضفة الغربية – انقطعت الكهرباء عن القرية للمرة الثالثة في تلك الليلة الصيفية الساخنة من ليالي شهر يوليو، ولكن لم يرغب الشباب في التوقف عن لعب الورق، فأخرج البعض هواتفهم المتحركة لينعكس ضوؤها على الطاولة المنخفضة في الفناء خارج منزل أمجد، المكان المعتاد الذي يلتقي فيه نحو 12 من شباب الزبيدات، وهي قرية شمال الضفة الغربية يسكنها 1870 نسمة. عادت الكهرباء مرة أخرى بعد ثلاث دقائق، لتنعكس الأضواء على أوراق اللعب المتناثرة على الطاولة، وتكشف عن الابتسامات العريضة التي تعلو وجوه الشبان، وكذلك عن عدد من الساحات خارج منازل قرية الزبيدات حيث يجلس الرجال يحتسون الشاي أو القهوة ويتجاذبون أطراف الحديث. في الفناء خارج منزل أمجد، كان يجلس كل من حمزة زبيدات، وهو فلسطيني من أهل القرية، والأمريكي كريستوفر ويتمان مع عدد من الشباب، بعضهم طلاب في المدرسة الثانوية، والبعض الآخر في العشرينات من العمر يعملون أو يدرسون في الجامعة.
انتقل حمزة، الذي يبلغ من العمر 28 عاماً، للسكن في بيت لحم في شهر فبراير الماضي بعد زواجه بخمسة أشهر، ولكنه يأتي بانتظام ليزور عائلته في قرية الزبيدات. وبسبب زيارته القرية عشرات المرات، أصبح كريس، 27 عاماً، أحد السكان الشرفيين للقرية ويتم الترحيب به في كل مرة يزورها. يتحدث الاثنان العربية والإنجليزية، ولكن لا يتحدث أيّ منهما سوى لغته الأم بطلاقة. يعمل حمزة في مركز العمل التنموي (معاً)، وهي مؤسسة فلسطينية غير حكومية، وذلك في مقر المركز في رام الله، كما كان كريس يعمل في نفس المركز حتى شهر فبراير الماضي. تتمركز مشاريعهم التنموية وأنشطتهم في قرى غور الأردن وترتبط بقرية الزبيدات. وحيث أن التقارير التي يقومون بإعدادها تقارن بين نوعية الحياة والموارد المتاحة لكل من الفلسطينيين والإسرائيليين في منطقة غور الأردن، فإن طبيعة عمل كريس وحمزة تركز كذلك على 31 مستوطنة إسرائيلية في غور الأردن، بما في ذلك مستوطنة أرجمان القريبة من قرية الزبيدات.
يعمل كثير من رجال وأولاد هذه القرية– بما في ذلك أطفال لا تتجاوز أعمارهم 13 عاماً – في مزارع مستوطنة أرجمان، ويحصلون على أجر يقل عن الحد الأدنى للأجور الإسرائيلية، ولا يتمتعون بأي ضمان اجتماعي، أو مزايا صحية، أو أمن وظيفي حيث أن الكثير منهم يتم توظيفهم على أساس يومي عن طريق “وسيط” فلسطيني يتعاقد معه صاحب المزرعة الإسرائيلي لاستقدام العمال الفلسطينيين. يقدر مركز “معاً” عدد الأطفال الفلسطينيين الذين يعملون في المستعمرات الزراعية في غور الأردن بنحو 500 إلى 1000 طفل، بينما يتراوح عدد العمال الإجمالي في المستوطنات ما بين 10 آلاف إلى 20 ألف فلسطيني يعملون في زراعة المنتجات الزراعية، وحصدها، ونقلها، وتنظيفها، وتعبئتها ليتم بيعها في الغالب في الأسواق الأوروبية. يقول كريس: “الهدف الأساسي من المستوطنات الزراعية هو التصدير”. وعلى عكس مزارع “الكيبوتس” التعاونية، فإن أرجمان هي “موشاف” أي مستوطنة زراعية يمتلك المستوطنون قسماً من أراضيها بشكل مشترك، ولكن معظمها ملكية خاصة.
بموجب القانون الدولي، المنصوص عليه في المادة 32 من اتفاقية حقوق الطفل والتي وقعت عليها إسرائيل، “تعترف الدول الأطراف بحق الطفل في حمايته من الاستغلال الاقتصادي ومن أداء أي عمل يرجح أن يكون خطيراً أو أن يمثل إعاقة لتعليم الطفل، أو أن يكون ضاراً بصحة الطفل أو بنموه البدني، أو العقلي، أو الروحي، أو المعنوي، أو الاجتماعي”. وتُعرّف الاتفاقية الطفل على أنه أي شخص دون سن 18 عاماً. وتحدد معاهدات منظمة العمل الدولية وقوانين العمل الإسرائيلية والفلسطينية العمر الأدني للعمل بسن 15 عاماً، وبالنسبة للأعمال التي تعد خطرة على صحة أو سلامة صغار السن، فإن الحد الأدنى للعمر هو 18 عاماً.
في غور الأردن، يعمل كثير من الأطفال، الذين تتراوح أعمارهم ما بين 13 و17 عاماً، قبل وبعد المدرسة وخلال الإجازات بمعدل ست إلى سبع ساعات يومياً. ولكن في الزبيدات وفي قرى أخرى، يترك البعض المدرسة قبل اتمام تعليمهم من أجل العمل بدوام كامل وإعالة أسرهم. ولا يعود سوى عدد قليل منهم لاستكمال تعليمهم بعد بدء العمل بدوام كامل. يُعرّض هذا النوع من العمل البدني الأطفال إلى خطر التعرض للمبيدات، وإلى الإصابة بسرطان الجلد نتيجة للعمل تحت أشعة الشمس لساعات طويلة، وللإرهاق، الأمر الذي يسبب لهم إعاقة النمو وإصابات جسدية مختلفة. تقول ميرا ناصر، منسق مشروع عمل الطفل في منظمة العمل الدولية، مكتب القدس، أن الأطفال بعيدون عن المراقبة، فهم يعملون لساعات طويلة ويقومون بأعمال لا تتناسب مع أعمارهم أو قدراتهم البدنية. وتضيف ناصر “هناك المزيد من الأطفال الذين يتركون الدراسة ليدخلوا إلى سوق العمل”.
على الرغم من الأجور المتدنية، والعمل البدني الشاق، إلا أن الشباب الفلسطينيين يذهبون للعمل في المستوطنات بسبب قلة الوظائف الأخرى المتاحة، حيث تصل نسبة البطالة في محافظة أريحا، التي تتبعها قرية الزبيدات إلى 19%، وهي من بين أعلى النسب في الضفة الغربية. في قرية الزبيدات، عمل جيلان على الأقل في مستوطنة أرجمان حيث تعود علاقات العمل بين أوائل المستوطنين الإسرائيليين والسكان الفلسطينيين الأكبر سناً إلى زمن طويل. ويعتبر الكثير من الرجال في الزبيدات أن العمل في مستوطنة أرجمان بمثابة تدرج طبيعي للأمور، فهم يذهبون للعمل في بساتين التمر وحقول الطماطم على خطى آبائهم وأعمامهم، وأخوتهم الأكبر سناً.
بدأ كريس إجراء أبحاثه وإعداد التقارير بشأن قضية عمالة الأطفال في أواخر العام 2011، بعد خمسة أشهر من مباشرته العمل في مركز العمل التنموي (معاً). وعندما يعد تقاريره التي توضح المتاعب الحياتية في غور الأردن، فإنه لا يبحث عن القصة “الأفضل” أو حالات الاستغلال الأكثر سوءاً، ولكنه يقول: “أود أن يكون لدي القاعدة وليس الاستثناء”. ووفقاً لكلامه، فإن الزبيدات هي القاعدة.
القاعدة وليس الاستثناء
في الزبيدات، تشمل قضية عمالة الأطفال مجموعة أخرى من المشكلات مثل الفقر، والبطالة، وسوء النظام التعليمي. يقول كريس أنه علاوة على ذلك، فإن موضوع استخدام الأطفال في الأعمال اليدوية هو أمر خاطئ وحسب، فعملهم يساعد في دعم المشروع الاستيطاني الذي يمنع الفلسطينيين من جميع الأعمار من العمل في أراضيهم الخاصة، وتطوير مشروعات زراعية مستدامة، واستغلال الأراضي والموارد المائية في غور الأردن. إن بقاء دائرة الفقر تعني أن يكسب القرويون أجراً يومياً ضئيلاً يكاد يبقيهم على قيد الحياة، ولكن لا توجد أمامهم سوى فرص ضئيلة تساعدهم على تجاوز ظروفهم الراهنة أو توفير مستقبل أفضل لأبنائهم.
في واقع الأمر، فإن الأطفال هم الضحايا في نهاية المطاف، وفي الغالب يكونون غير ظاهرين. في سن السادسة عشرة، يرى البعض في الزبيدات أنه لا توجد فائدة من إتمام الدراسة الثانوية لأنه بصرف النظر عن مستوى التعليم الذي يحصلون عليه، فإنهم يعرفون أنه من المرجح أن ينتهي بهم الأمر بالعمل في مزارع مستوطنة أرجمان، مثل الكثير من أفراد عائلاتهم وجيرانهم. يقول كريس، وهو جالس على مقهى قرب محطة حافلات رام الله: “العمل بالزراعة ليس هو ما يجب عليك القيام به عندما يكون عمرك 15 أو 16. لا توجد خيارات في الأمر، فالأطفال لا يعملون في المستوطنات لأنهم، على سبيل المثال، يقولون في أنفسهم “حسناً، أنني أشعر بالملل، لنذهب ونحصل على وظيفة”. وهم لا يعملون ليحصلوا على (مصروف إضافي) للذهاب إلى رام الله وقضاء الليالي في الشرب أو لشراء السجائر. إنهم يعملون لمساعدة عائلاتهم.. وبينما ينفث دخان الأرجيلة المنكّهة، يدون كريس أسماء المستوطنات في غور الأردن التي يعرف أنها تقوم بتشغيل الأطفال وهي “تومر”، و”بيتزاعيل”، و”أرجمان”، و”يافت”، و”نعامي”، و”نعران”، و”جلجال”، و”نتيف وهجدود”، و”كالية”، و”بيت هارافا”، و”روعي”.
على الرغم من أن “أرجمان” لا تضم نفس عدد الأطفال العاملين مثل مستوطنة “تومر”، إلا أن كريس يقول أن أرجمان – ثاني مستوطنة إسرائيلية يتم بناؤها في غور الأردن، والثالثة في الضفة الغربية – لها تاريخ طويل. بالنسبة لحمزة، الفلسطيني من قرية الزبيدات، فإن أرجمان هي المكان الذي عرف فيه لأول مرة عن المستوطنات حينما كان يعمل مع أبيه وأخوته عندما كان طفلاً، فقد بدأ في الذهاب إلى المزرعة وهو في الصف الرابع أو الخامس. في البداية، طلب من والده أن يأخذه معه خلال العطلة المدرسية، ثم بعد ذلك كان يقوم ببعض الأعمال اليدوية مثل إزالة الحشائش من الحقول، وتحريك أنابيب المياه الكبيرة ذات المرشات لري الأراضي. يقول حمزة أنه بنهاية الصف الثامن أو التاسع، كان هو واثنان من اخوته، وعامل آخر مسؤولين عن تجهيز 50 فداناً من الأراضي للزراعة، وكان الأطفال يعملون قبل المدرسة وبعدها. كان من الممكن لحمزة أن يصبح “وسيطاً” عندما يكبر، ولكنه حصل على وظيفة في مركز “معاً” في العام 2012، في نفس الوقت الذي ترك فيه واحد من أفراد أسرته – الآن في التاسعة عشرة – المدرسة ليعمل بدوام كامل في مزرعة في مستوطنة أرجمان. يتحدث حمزة بتواضع عن الفرصة التي حصل عليها ويقول: “الشئ الوحيد الذي أمتلكه هو خبرتي في المنطقة ومعلوماتي عن غور الأردن”.
حسن الجوار
تقع قرية الزبيدات في الشمال الشرقي لغور الأردن، قبالة أطول الطرق في إسرائيل وهو الطريق السريع 90، الذي يمر من شمال إسرائيل إلى جنوبهاً عبر الضفة الغربية. تحيط بالقرية الأراضي المسماة بالمنطقة (ج) الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية. في الصيف، في فترة بعد الظهر والمساء، يلعب أطفال قرية الزبيدات كرة القدم خارج منازلهم في الشوارع الترابية الجانبة وفي واحدة من قطع الأراضي القليلة الفارغة ، بينما تجلس مجموعات من الرجال الأكبر سناً بالقرب منهم على كراسي بلاستيكية قابلة للطي، تم إصلاح مقاعدها باستخدام الأسلاك أو الدبابيس أو الخيوط.
معظم الناس الذين يعيشون هنا يحملون نفس اسم العائلة – زبيدات- بما في ذلك حمزة وأسرته، فقد تأسست القرية على يد أسلافهم، وهم قبيلة من البدو اللاجئين الفلسطينيين الذين نزحوا في العام 1948 من بئر السبع في وسط إسرائيل. حسب تقرير “معاً”، وافق الأردن في عام 1962، على السماح لسكان الزبيدات بالاستمرار في تأجير أراضي القرية لمدة خمس سنوات، وبعدها يمكنهم تملكها. ولكن بعد حرب الأيام الستة عام 1967، عندما سيطرت إسرائيل على الضفة الغربية، تبدل مستقبل الزبيدات؛ فقد صادرت إسرائيل نحو 990 فداناً من أراضي القرية. وفي عام 1968، تم استخدام جزء من تلك الأراضي لإقامة مستوطنة أرجمان الإسرائيلية، لتكون، في الأساس، معسكراً للجيش.
يمتلك ديفيد ليفي، أحد المستوطنين الأصليين، بستاناًعلى مساحة 14 فداناً أسفل المستوطنة، على بعد مسافة قصيرة من الزبيدات. وفي مطعم قريب على جانب الطريق، يصف ليفي تاريخ أرجمان والعلاقات الجيدة التي تعود إلى زمن بعيد بين أرجمان وسكان الزبيدات. يعمل ما بين سبعة إلى عشرة فلسطينيين في مزرعة ليفي خلال موسم الحصاد، ولكن لا تقل أعمارهم أيّ منهم عن 18 عاماً. ويضيف ليفي أن نحو 20 من أصحاب المزارع في أرجمان يشغلون عمالاً فلسطينيين في مزارعهم.
بعد مرور ساعة، يصعد ليفي إلى أعلى التل بسيارته ذات الدفع الرباعي، ويدخل أرجمان من بوابة المستوطنة ملوحاً بيده لجندي الحراسة هناك. إنها فترة بعد الظهر في يوم مشرق من أيام شهر أغسطس. الشوارع خالية، والملاعب هجرها الأطفال. لا يوجد سوى أشخاص قليلون حول بوابة حمام السباحة الخارجي. تبدو المباني والشوارع مجدبة ونحن نمشي وسط المستوطنة. في الطريق الصاعد لأعلى، مررنا بصف أنيق من البيوت وكلب مربوط خارج أحدها. من بقعة مميزة أعلى نقطة مراقبة، يمكنك إن مددت بصرك في ما وراء الطريق الترابي وسورالأسلاك الشائكة، ان ترى قرية الزبيدات. المسجد في وسط القرية يبرز في المشهد، بينما تبدو منازل عائلة حمزة وجيرانهم مكدسة بجانب بعضها البعض.
في وقت متأخر من إحدى الأمسيات، يجلس كريس وحمزة على الأرض المبلطة في غرفة معيشة منزل أمجد في الزبيدات. التلفزيون كان ما زال دائراً عندما وصل بعض الشباب ممن يعملون في أرجمان. عند سؤال أحدهم عما إذا سبق وأصيب أثناء عمله في حقول المستوطنة، رفع كم قميصه ليكشف عن ندبة بطول ثلاث بوصات تبدأ تحت إبطه الأيسر وتمتد حتى الزاوية العليا من كتفه الأيسر. بدأ هذا الشاب العمل مع أبيه في مستوطنة أرجمان عندما كان في الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمره، ووقعت الحادثة عندما كان في الرابعة عشرة، حيث سقط تحت جرار المزرعة بينما كان راكباً عليه، وأصيب كتفة إصابة شديدة. بعد إجراء الجراحة وقضاء ثلاثة أيام في إحدى مسشفيات القدس، لم يتلق هو أو عائلته أي تعويض من صاحب العمل الإسرائيلي. في واقع الأمر، لم يهتم والداه حتى بإخبار صاحب المزرعة بما حدث، حيث يعرفا أن العمال الفلسطينيين لا يتمتعا بتأمين صحي أو أي مزايا أخرى. وقد دفع والده – وهو “وسيطه” في الوقت نفسه – فاتورة المستشفى. اليوم، وبعد مرور 10 سنوات، يكسب الشاب أقل من 3 دولارات في الساعة، أي ما يعادل نصف الحد الأدنى للأجور في إسرائيل. ويعمل سبعة ساعات في اليوم، أربعة أيام في الأسبوع، في جني العنب والفلفل بالإضافة إلى المهام الأخرى في المزرعة. في الأيام الثلاثة الأخرى، يدرس التربية الرياضية في جامعة القدس المفتوحة، ويأمل في الحصول على وظيفة أفضل كمدرس للتربية الرياضية عندما يتخرج من الجامعة بعد عامين. ولكن إن لم يتمكن من الحصول على وظيفة في الزبيدات أو في إحدى المدن الكبرى، فسيضطر للاستمرار في العمل في أرجمان.
في العائلة
المشهد على طول الطريق 90 من أريحا شمالاً إلى الزبيدات يشبه لوحة انطباعية تطغي عليها ألوان الأصفر الباهت، والبني، والرمادي، ولا يقطع تناغمها من حين لآخر سوى سيارة تسير على الطرق الجبلية المتعرجة غير المستوية. كما تنتشر على الطريق الشجيرات الصحراوية القصيرة، وبعض البقع الخضراء، وحظائر الماعز والأغنام المصنوعة من المعدن المموج وقطع الخردة الأخرى والتي تميز بيوت الرعاة البدو وعائلاتهم. وعلى الرغم من المظهر القاحل الذي يبدو عليه المكان عند النظر إليه للوهلة الأولى، إلا أن المنطقة تتمتع بأراضي خصبة وموارد وفيرة للمياه، والدليل على ذلك المساحات الواسعة المزروعة بأشجار النخيل والمحاصيل الأخرى، والتي يقع بعضها على امتداد نهر الأردن.
في الزبيدات، يعمل اثنان من أبناء العمومة عمرهما 16 و17، معاً في مستوطنة أرجمان، و”وسيطهما” هو والد الشاب الأصغر. وكان الأكبر قد ترك المدرسة عندما كان عمره 16 عاماً ليعمل بدوام كامل في المستوطنة، وانتقل للعيش مع أسرة عمه بعد موت والده. يقول وهو ينفث دخان سيجارته: “لو كان هناك شئ آخر لفعلته. ولكن لا يوجد شئ آخر”. ابن عمه الأصغر ما زال في المدرسة، ولكن الشاب ذو الستة عشر عاماً يعمل في المستوطنة يومياً من الساعة الثانية بعد الظهر وحتى غروب الشمس. يقول الولد الأصغر وهو يهز كتفيه: “نعم، إنه عمل صعب، ولكن هذه هي الحياة. لا بد لي من القيام بذلك”. تضم أسرته والديه، وسبعة أخوة وأبناء عمه. ويعمل جميع الرجال في أرجمان.
يعمل ثلاثة أفراد من عائلة حمزة على الأقل ممن يعيشون في الزبيدات كوسطاء في أرجمان؛ أكبرهم الذي يبلغ 52 عاماً عمل مع خمسة مستوطنين مختلفين على مدى الأعوام الثلاثين الماضية، حيث يقوم باستقدام العمال، وشراء لوازم المزرعة. بدأ الرجل العمل في المستوطنة عندما كان عمره 15 عاماً، وأصبح “وسيطاً” بعد ذلك بنحو خمس سنوات. الرجل الاجتماعي ذو الشعر الأشيب واللحية المشذبة، يقوم من وقت لآخر، بتشغيل الأطفال (نحو خمسة بالمئة من قوة العمل لديه). وقد أحضر أولاده للعمل معه بينما كانوا لا يزالون في المدرسة. يقول “الوسيط”: “أنا لست طبيباً أو أستاذاً. أنا مجرد مزارع”.
يعمل شخص آخر من عائلة حمزة مع نفس المستوطن منذ 15 عاماً – منذ أن كان عمره 14 عاماً، ويعترف بأن العمل فيه استغلالية، لذا، يرفض “الوسيط” تشغيل الأطفال. وعلى الرغم من ذلك، فقد ترك هو نفسه المدرسة ليعمل في أرجمان. يترجم حمزة كلام قريبه فيقول: “هو يحاول أن يقنع الأطفال بأن يعودوا للمدرسة”. ولكن كريس يوضح أنه لو رفض “الوسيط” تشغيل الأطفال الذين يرغبون في العمل في المستوطنات، فإنهم يبحثون عن مقاول عمال آخر يرغب في تشغيلهم. ويضيف كريس أنه في بعض الأحيان، يكون الفتى هو العائل الوحيد لأسرته، خاصة لو كان الأب معاقاً أو متقدماً في السن لا يستطيع العمل في وظيفة تتطلب جهداً بدنياً.
في منزل أقارب حمزة، ينام الزوار في الغرفة الأمامية على مراتب مزدوجة متدثرين بالبطانيات السميكة بينما مكيف الهواء مضبوط على درجة حرارة منخفضة. الجدار الأكبر تزينه لوحة طبيعية لقرية بدوية رسمها أحد أصدقاء الأسرة. وعلى حائط آخر، هناك برواز لصورة أحد أقارب حمزة عندما كان طفلاً. الشاب الذي يبلغ من العمر 19 عاماً ينام في نفس الغرفة تحت صورته، وفي السادسة صباحاً كان قد غادر المنزل ليذهب للعمل في أرجمان.
الرد الرسمي
أنتج مركز “معاً” فيلمين وثائقيين عن تشغيل الأطفال في المستوطنات، إلا أن عدداً قليلاً من المنظمات الأخرى تطرقت إلى هذه القضية. المسؤولون الحكوميون – الفلسطينيون والإسرائيليون – كانوا بطيئين في التعامل مع هذا الاستغلال القائم منذ عقود. ولكن في السنوات الأخيرة، قام بعض المسؤولين الفلسطينيين باتخاذ بعض الخطوات الصغيرة. يقول أمجد جابر مدير مكتب وزارة العمل الفلسطينية في أريحا أن موظفيه عملوا مع الشرطة الفلسطينية لملاحقة خمس حالات تتعلق بعمالة الأطفال في المستوطنات منذ فبراير 2013، ولكن لا توجد إرادة سياسية كافية خارج محافظة أريحا للقبض على “الوسطاء”، فالحكومة، في الأساس، توجه تهم الاتجار بالأطفال عندما يتم القبض على “الوسطاء” وهم يقومون بنقل الأطفال القصّر عبر أريحا بعد استقدامهم للعمل من نابلس أو طوباس للعمل في مزارع مستوطنات غور الأردن.
وبحسب المحامي الفلسطيني خالد قزمار، المستشار القانوني للحركة العالمية للدفاع عن الأطفال-فرع فلسطين، ليس لدى الشرطة أو المحاكم الفلسطينية سلطة قضائية على المستوطنات، ما يجعل من الصعب ملاحقة الإسرائيليين الذين يقوموا بتشغيل الأطفال. “عندما يذهب طفل فلسطيني للعمل في المستوطنات الإسرائيلية، فنحن لا نستطيع فعل شئ”. في العام 1995، وقعت إسرائيل والسلطة الفلسطينية اتفاقيات أوسلو، التي حددت المناطق الإدارية في الضفة الغربية – (أ)، و(ب)، و(ج)- وتسيطر إسرائيل مدنياً وعسكرياً على المنطقة (ج) التي تبلغ نحو 60 بالمئة من مساحة الضفة الغربية وتوجد بها المستوطنات. يمكن للفلسطينيين ملاحقة “الوسطاء” بتهمة الاتجار بالأطفال إذا كانوا مسافرين عبر المنطقة (أ) أو (ب) حيث تمتلك السلطة الفلسطينية سيطرة كاملة أو جزئية عليها.
في 2007، قضت المحكمة العليا الإسرائيلية أن قوانين العمل الإسرائيلية يجب أن تطبق بالتساوي على الفلسطينيين الذي يعملون لدى أصحاب العمل الإسرائليين في الضفة الغربية. وأكد قزمار، وهو المحامي الذي ساعد في صياغة مسودة قوانين عمالة الأطفال في السلطة الفلسطينية، قرار المحكمة العليا وقال أن القانون الإسرائيلي يجب أن يوفر حماية مماثلة للأطفال الفلسطينيين.
طبقا لتقرير منظمة العمل الدولية لعام 2013 حول وضع العمال في الضفة الغربية وقطاع غزة، فإن الرقابة الحكومية الإسرائيلية على ظروف العمل في المستوطنات وإنفاذ قوانين العمل “لا تزال غائبة إلى حد كبير”. تقول رشا الشرفا مسؤولة البرامج في منظمة العمل الدولية في القدس: “صادقت إسرائيل على اتفاقيات منظمة العمل الدولية بما في ذلك الاتفاقيات المتعلقة بعمالة الأطفال. لذا، تقع المسؤولية على عاتق السلطات الإسرائيلية لمعالجة هذه القضية”.
ورداً على الأسئلة التي تم توجيهها لوزارة الاقتصاد الإسرائيلية، يقول أفنير عمراني، وهو مدير الأبحاث في قسم علاقات العمل، أن الوزارة لم تتلق أي شكاوى تتعلق بالأطفال الفلسطينيين الذين يعملون في المستوطنات، وأضاف أن الرقابة العمالية في الضفة الغربية “أقل استباقية” وأن مفتشي العمل يقومون بالتحقيق فقط عندما يتم الابلاغ عن انتهاكات.
يقول عمراني: “حتى الآن، لا ينطبق قانون عمالة الأحداث على منطقة يهودا والسامرة (الضفة الغربية)”. يطبق قانون العمل الأردني، كجزء من النظام القانوني في المنطقة التي سبقت حرب 1967، على الأراضي التي تسيطر عليها قوات الدفاع الإسرائيلية. ولكن بعد استكمال مهمة الفريق الحكومي الذي يضم ممثلين عن وزارتي العدل والاقتصاد، والمجلس القانوني لمنطقة يهودا والسامرة، والمكلف بدراسة تطبيق قوانين العمل الإسرائيلية في مستعمرات الضفة الغربية، سيتم تطبيق وتنفيذ قانون عمالة الأحداث الإسرائيلي بما في ذلك تشغيل أصحاب العمل الإسرائيليين للفلسطينيين. في الوقت الحالي، تطبق القوانين الإسرائيلية الخاصة بالحد الأدنى للأجور، وعمالة المرأة، والعمالة الأجنبية في المنطقة، ولكن لم يتم تطبيق قانون عمالة الأحداث بعد، حيث سيتم تنفيذه من خلال تشريعات الدفاع الإسرائيلية.
بعيداً في أعماق مزارع أرجمان، بين الدفيئات الزراعية، والحقول، وخلف صفوف أشجار النخيل، يعمل أحد أقارب حمزة داخل وحدة لتغليف المنتجات الزراعية. كان هذا الشاب قد ترك المدرسة وهو في الصف العاشر، على غير رغبة والدية، ليعمل في أرجمان. يرتدي الشاب قميصاً أبيض بدون أكمام وبنطالاً رياضياً رمادي اللون، بينما يظهر على وجهه شارب خفيف ناعم يشبه شوارب المراهقين. على مدى ستة أيام في الأسبوع، يعمل في جني ثمار التمر، وتنظيفها وفرزها، بالإضافة إلى عمله في استقدام العمال الفلسطينيين– بما في ذلك شباب أصغر منه بسنوات قليلة. يكسب الشاب أقل من 700 دولار في الشهر، ويقول: “النقود لا تكفي حتى لإطعام أسرة. الناس (في الزبيدات) طيبون، ولكن الحياة رديئة”. لا يستطيع الشاب ذو التاسعة عشر ربيعاً، والذي بدأ العمل عندما كان طفلاً، أن يغادر وحدة التغليف لمدة طويلة، ولا أن يغادر المستوطنة في الوقت الحالي. وربما لن يفعل ذلك أبداً.
الخطوات التالية
للبدء في معالجة قضية عمالة الأطفال في المستوطنات، هناك دور يمكن أن تقوم به حكومات كل من إسرائيل وفلسطين والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، فضلاً عن الأطراف الدولية الأخرى بما في ذلك الشركات الخاصة، والمؤسسات الخيرية، والمستهلكين. على نطاق واسع، يمكن للمفاوضات الدبلوماسية التي تعمل على إنهاء المواجهات الإسرائيلية الفلسطينية، أن تبدأ عهداً جديداً من السلام والأمن والتنمية الاقتصادية، فتوسيع نطاق الأعمال التجارية والاستثمارات الأجنبية والتجارة في فلسطين من شأنه أن يحسن الظروف المعيشية للآباء الفلسطينيين الذين لا يوجد لديهم حالياً خيارات بديلة متاحة سوى أن يرسلوا أطفالهم للعمل في المستوطنات.
تقدر قيمة السلع الزراعية التي تنتجها مستوطنات غور الأردن بنحو 143 مليون دولار سنوياً، وذلك وفقاً للمجلس الإقليمي – غور الأردن. وفي الوقت نفسه، تعتمد السلطة الفلسطينية على المساعدات الأمريكية والأوربية والأجنبية لدفع رواتب الموظفين الحكوميين، وتطوير البينة التحتية وصيانتها بما في ذلك الطرق والمدارس. في العام 2013، أفاد البنك الدولي أن عدم تمكن الفلسطينيين من الوصول إلى أراضي الضفة الغربية قد كلف الاقتصاد الفلسطيني 3.4 مليار دولار. إن التنمية الزراعية الفلسطينية في المنطقة يمكن أن تساعد في حل المشكلات المالية للسلطة الفلسطينية.
ولكن في انتظار الحل الذي طال انتظاره للصراع، يجب على الحكومة الإسرائيلية، على الأقل، فرض قوانين العمل الخاصة بها على الأراضي التي تقول أنها خاضعة لسيطرتها. وهذا يعني ملاحقة الإسرائيليين الذين يشغلون الأطفال بصورة غير مشروعة، أو لا يدفعون الحد الأدنى للأجور أو يوفرون مزايا اجتماعية للعمال، أو لا يطبقون إجراءات السلامة التي يفرضها القانون، بما في ذلك إجراء الفحص الطبي للأطفال. فضلاً عن ذلك، إذا دفع أصحاب العمل الإسرائيليون أجوراً للبالغين تكفي لإعالة العائلات الكبيرة (وفقاً لمركز “معاً” يبلغ متوسط عدد أفراد الأسرة في الزبيدات سبعة اشخاص)، ستقل حاجة الأسر لأن يرسلوا أطفالهم للعمل في المستوطنات. علاوة على ذلك، يجب على وزارة الاقتصاد الإسرائيلية أن تكون أكثر إيجابية في التفتيش على المستوطنات الزراعية لرصد الانتهاكات المتعلقة بالعمل، وعلى الأخص الانتهاكات الفادحة التي تنطوي على عمالة الأطفال.
تتوقع وزارة الاقتصاد أن ينتهي الفريق المشترك بين الوزارات من عمله بحلول شهر أغسطس 2014. وتقول الوزارة أنه عندما يتم تطبيق قانون عمل الأحداث في الضفة الغربية، فإن مفتشيها سيستجيبون للشكاوى التي يقدمها الموظفون، وأصحاب العمل، بالإضافة إلى المبادرات التي يقوم بها المفتشون أنفسهم. سيتم تطبيق القوانين في غور الأردن وفقاً للوائح العمل الإسرائيلية “بنفس القدر التي تطبق بها في بقية دولة إسرائيل”. ولكن سيكون بإمكان المفتشين مقاضاة أصحاب العمل الإسرائيليين فقط على الانتهاكات التي يرتكبونها، ولكن لن يكون بإمكانهم ملاحقة المقاولين الفلسطينين.
كما يجب على السلطة الفلسطينية أن تفعل المزيد لملاحقة “الوسطاء” الذين يقومون باستقدام الأطفال من المنطقتين (أ) و(ب) للعمل في المستوطنات، والعمل مع المنظمات غير الحكومية والدول المانحة لتوفير برامج عمل بديلة للشباب والكبار للمساعدة في بناء الاقتصاد الفلسطيني وتوفير دخل ثابت للأسر. ويمكن لحملات التوعية العامة المساعدة في التعريف بأخطار العمل في المستوطنات على صحة الأطفال، وسلامتهم، ونموهم.
ومع ذلك، فإن العمال الفلسطينيين في المستوطنات ممن يتم انتهاك حقوقهم لا يمكنهم الوصول إلى النظام القضائي الإسرائيلي بسهولة. تقول الشرفا، مسؤولة البرامج في منظمة العمل الدولية في القدس: “المحامون الفلسطينيون لا يمكنهم المثول أمام المحاكم الإسرائيلية. إذا كانت هناك قضية تتعلق بعمالة الأطفال، لا يوجد نظام يتناول تلك الأمور”. ولكن يمكن لمنظمة العمل الدولية والمنظمات غير الحكومية مساعدة العمال الفلسطينيين، بما في ذلك الأطفال، من خلال تعزيز قدرات الاتحادات الفلسطينية لتوعية العمال بحقوقهم بموجب القوانين الدولية والإسرائيلية. كما يمكنها كذلك المساعدة في دفع أتعاب محامين يحملون الجنسية الإسرائيلية لتمثيل العمال الفلسطينيين الذين يبحثون عن حقوقهم أمام المحاكم الإسرائيلية. وهذا قد يساعد في منع الانتهاكات التي يرتكبها أصحاب العمل في المستقبل.
في الوقت نفسه، يمكن باستخدام سلاح المقاطعة والضغط على الشركات الخاصة والمستهلكين، المساعدة في التعريف بتلك الانتهاكات والحشد ضدها، وخاصة التجاوزات المتعلقة بعمالة الأطفال. ويتم ذلك عبر رفض التعامل مع الشركات الإسرائيلية التي تعمل شرق الخط الأخضر في الضفة الغربية. ويجب على الحكومات، والشركات، والأفراد البدء بالتوقف عن شراء منتجات المستوطنات التي يشارك في زراعتها وحصدها وتعبئتها الأطفال الفلسطينيون. هؤلاء القصّر يستحقون حاضراً ومستقبلاً خالٍ من العمل الذي يساعد على تكريس هامشية مجتمعهم وحرمان جيلهم من حقوقه الاقتصادية. هؤلاء الفتيان لهم الحق في الاستمتاع بطفولتهم.
ترجمة: الهتلان بوست
الصورة من موقع وورلد بوليسي جورنال نقلاً عن مايكل لودينتال ، الموضوع الأصلي في مجلة “وورلد بوليسي جورنال على الرابط: http://www.worldpolicy.org/palestine-children-laboring