كاتبة في صحيفة البيان
تمعنت في شخصيتين ساخرتين، لا تنتهي إسقاطاتهما في أدبهما المكتوب، إذ تتداخل العلاقة الجمالية والجنونية في تصرفاتهما، كما تتداخل بين الأدب والحياة.
الشخصية الأولى هي «جحا»، الذي عاش في العصر الأموي كما هو موثق، أو ربما قبل ذلك العصر.. ويدعى أبوالغصن دُجين بن ثابت الفزاري، لُقب بجحا، وأصل الاسم من جَاحَ بوجهه.. وهو في التراث العربي شخصية ظريفة ومعروفة، لكنه اشتهر بالبله أو الحمق، رغم دهاء تصرفه؛ والسبب هو أسلوبه الساخر، كأنه يتعمد إظهار حمقه لا إظهار ذكائه في الموقف المطلوب.. يقلب المعنى إلى عكس ما يقصده، فيختلط النقد بالضحك، ليعالج أمراً عظيماً كأنه لا شيء، بلا موعظة أو خطابة.
• لم نحتفِ بجحا في أدبنا كما ينبغي، أو كما اعتنت الأمم الأخرى بشخصياتها الساخرة، من خلال إبرازها بشتى الطرق: أدباً وتعليماً وخيالاً ودراسة.
وباعتقادي أننا لم نحتفِ بجحا في أدبنا كما ينبغي، أو كما اعتنت الأمم الأخرى بشخصياتها الساخرة، من خلال إبرازها بشتى الطرق: أدباً وتعليماً وخيالاً ودراسة.
في المقابل؛ شخصية «دون كيخوته»، الإسباني الأبله والأحمق والمجنون والعبقري، إذ وصفوه بالكثير من الألقاب، بعد أن قرأ الكثير من كتب الفروسية ليخرج من داره مجنوناً متحمساً لصعود حصانه الهزيل مع «سانشو» الحلاق وحماره، منطلقاً إلى عالم الرعي، يحارب الأشرار بنبل الفرسان في العصور الوسطى، الذين انتهوا ولم يعد لهم وجود!
استل سيفه ودخل في عراك مع الأشرار، الذين لم يكونوا سوى طواحين هواء، وقد نجا بأعجوبة، لكنه متأكدٌ من جانبه أنه قد هزمهم ورحلوا، ليكمل طريقه وقصصه بالأسلوب الجنوني نفسه، كما لم يستطع أقرباؤه إقناعه بالعودة، ومنذ ذلك الوقت تركت هذه الرواية الشعبية الأثر في النفوس، على مدى أربعة قرون، بعد أن كتبها الأديب الإسباني ميغيل دي ثربانتس، لأنه أحيا فناً قد قتله التاريخ.. من حياة رعوية، والغوص بجنون وبساطة في عمق الحدث، ليخرج العالم مندهشاً من تلك الإسقاطات، التي تبدو مقصودة أو غير مقصودة.
يتجدد الأدب الشعبي في روح كل قارئ، كلما ذكر جحا أو دون كيخوته أو غيرهما، في نوادرهما الساخرة التي تبدو حمقاء لكنها في الأصل ذات أبعاد فلسفية عميقة، لتصبح الحكايات الشعبية مرايا أوطاننا وشعوبنا بألوانها القاتمة والزاهية.
الشعوب كلها لديها شخصيات ساخرة خاصة بها، كما في تركيا «نصر الدين خوجه»، و«غابروفو» في بلغاريا، و«أرتين» في أرمينيا، و«آرو المغفل» في يوغسلافيا.. صممت هذه الشعوب حكاياتها وسيرتها الشعبية، واهتمت بها كنوع من الترفيه عن حياتها سابقاً، لتدوّنها كدراسة وثقافة أدبية ومنهجية حالياً.
فن السخرية فنٌ غير مبتذل، بل فن يحتوي على جميع الأجناس الأدبية، فيلامس الوجدان والإنسان بعد أن تأخذ منه ضحكته.. لتصبح السخرية موهبة يملكها عادة صاحب رسالة نبيلة نحو مجتمعه، حينما يعجز ناسه وأهله عن الفهم، أو يصبح رافضاً للنقد، فيتدخل الساخر بخياله ولغته، يرمي ما لديه ويمضي دون تجريح.. لكنه يترك أثراً عفوياً وعميقاً، يدع الآخر يغوص في جدية ما قاله.. مؤاخياً بين العفوية والذكاء، وصولاً إلى الإصلاح.
المصدر: جريدة الإمارات اليوم