فهد بن سعود الدغيثر.. نموذج فريد في الانضباط ومدرسة مستقلة في الإدارة

منوعات

فهد الدغيثر والزعيم اللبناني كمال جنبلاط

محمد السيف

في عام 1965م أصدر مجلس الوزراء السعودي برئاسة نائب رئيس المجلس آنذاك الأمير (الملك) خالد بن عبد العزيز قرارا يقضي بتعيين الأستاذ فهد بن سعود الدغيثر مديرا عاما لمعهد الإدارة العامة، خلفا للأستاذ محمد أبا الخيل، الذي تعين وكيلا لوزارة المالية والاقتصاد الوطني، بعد أن أدار المعهد طيلة ثلاثة أعوام ونصف العام، شهدت بدايات التأسيس ووضع الأسس العامة للمعهد. هذه الثقة التي نالها الدغيثر جعلته يواصل عمله الإداري الذي تميز به وعرف عنه، وليضع بصمة لا يمحوها الزمن في التاريخ الإداري السعودي بقطاعيه العام والخاص، إذ أدار بجدارة وفي وقت مبكر من عمره مصلحة الإحصاءات العامة، ثم معهد الإدارة العامة مدة 14 عاما، وتولى الإشراف على مصلحة الجمارك ونقلها نقلة إدارية شهد له بها الجميع.

في القطاع الخاص، أدار الدغيثر بكل همة واقتدار الشركة العقارية السعودية، التي ولدت في حضنه وترعرعت على يديه في فترة الطفرة الأولى، والتي قدمت لمدينة الرياض نماذج راقية ومشرفة بمشاريعها الإسكانية والتجارية، مما سيأتي تناوله في هذه السيرة، التي تطرحها «الشرق الأوسط» بمناسبة الذكرى الثانية لرحيل الرجل الإداري الكبير، الذي خسره وطنه إداريا فذا في حياته، قبل أن يخسره برحيله الأخير إلى جوار ربه.

* المولد والنشأة

* ولد فهد الدغيثر في حي «الشرقية» أحد الأحياء التي كانت تشكل الرياض القديمة، وذلك في عام 1936م. وهو ينتمي إلى عائلة كبيرة وعريقة ذات تاريخ وشأن في أحداث منطقة العارض وما جاورها منذ ثلاثة قرون. وكان جده عبد الله أحد قادة الدولة السعودية الثالثة ومن الرجال المقاتلين الذين شاركوا الملك عبد العزيز ملحمة التأسيس والتوحيد والبناء، فقد شارك في عدة معارك، من أهمها «البكيرية»، وتوفي عام 1955م ودفن بجوار الملك عبد العزيز، في مقبرة العود.

وكان والده سعود الدغيثر وجيها من وجهاء مدينة الرياض ومن الجلساء المقربين للأمير (الملك) سعود بن عبد العزيز، وكان نائب رئيس المجلس البلدي في أول تشكيل له، وقد اهتم سعود الدغيثر بأبنائه وحرص على تعليمهم وتأهيلهم لما فيه خدمة الوطن، وسيرة فهد ومنجزاته وأعماله تعكس هذا الاهتمام، حيث أدخله والده بدءا في معهد أنجال ولي العهد، ثم بعث به إلى مدرسة تحضير البعثات في مكة المكرمة، وكانت مقصدا لطالب العلم الذي كان يرغب في مواصلة تعليمه في الآداب والعلوم الشرعية، لكن فهد لم يَرُق له المقام في هذه المدرسة، فكان طموحه أن يتعلم اللغة الإنجليزية وأن يدرس العلوم الطبيعية، لذلك حزم أمره وصمم على مغادرة دار التوحيد بعد أن أمضى فيها شهورا، وتوجه إلى لبنان، الساحرة حينذاك، التي تضم في سهولها وجبالها عددا من الطلاب السعوديين، ممن يدرسون الطب والهندسة والسياسة والإدارة والاجتماع وغيرها من تخصصات لم تكن موجودة في بلادهم السعودية. انضم فهد الدغيثر فور وصوله إلى لبنان إلى المدرسة المتوسطة والثانوية التابعة للجامعة الأميركية في بيروت. ويذكر زميله في الدراسة الأستاذ تركي الخالد السديري أن فهدا كان جادا في دراسته، ولم يكن يلعب معهم كرة القدم، كان فقط يشتري الصحف والمجلات ويقرأها بنهم شديد.

بعد أن تخرج في الثانوية التابعة للجامعة الأميركية في بيروت عام 1951م قرر أن يواصل دراسته الجامعية في الجامعة الأميركية في القاهرة وليس بيروت، كأنما أراد أن يتنفس هواء الحرية في بيروت ويستنشق عبيرها في مرحلة الشباب الباكر، وأن يظفر بما بقي من مجتمع الثقافة والآداب والفنون في القاهرة قبل أن ينحسر مجده، ذاك حينما كانت القاهرة تعيش أعز وأرقى فتراتها ليبرالية وتنويرا وإشعاعا حضاريا.

وصل فهد الدغيثر إلى القاهرة وانتظم في الجامعة الأميركية متخصصا في الاقتصاد، وقد نال الشهادة في عام 1955م وخلال سنوات دراسته الجامعية عايش في القاهرة وشاهد مسرحها الثقافي العربي الكبير، الذي اتسع لكل آمال المهاجرين وقاصديها من طلبة ودارسين، فكان لتعليمه الأولي في لبنان ودراسته الجامعية في القاهرة الأثر الكبير في تكوين شخصيته، بما عرف عنها لاحقا من صرامة وجدية، وحزم وعزم في العمل الإداري، مع روح شابة مرحة رافقته طيلة المسيرة، وتواضع جم كبير، لا يدركه إلا من تعامل معه عن قرب.

بعد عودته من القاهرة توجه فهد الدغيثر إلى العمل في مؤسسة النقد العربي السعودي بوظيفة «باحث اقتصادي» وفي المؤسسة المصرفية الكبرى، تعرف على طبيعة العمل الإداري والمالي، وما يواجهه من تحديات وما يتطلبه من تحديث وتطوير في أنظمته. ولا شك أنه حقق نجاحات في مؤسسة النقد جعلت الشيخ عبد الله بن عدوان وزير الدولة للشؤون المالية والاقتصاد الوطني، يصدر قرارا بتاريخ 18 – 5 – 1380هـ (1960م) بنقل خدمات الموظف فهد الدغيثر، الذي يعمل في المرتبة الرابعة في مؤسسة النقد إلى الإدارة العامة للشؤون الاقتصادية في وزارة المالية والاقتصاد الوطني بالمرتبة ذاتها، وبراتب شهري قدره ألف ومائتا ريال. في هذا الموقع الإداري الجديد، وضع فهد الدغيثر أولى خطواته للمساهمة الإدارية الوطنية الفذة، حينما أسندت إليه إدارة الدراسات الاقتصادية في وزارة المالية والاقتصاد الوطني، ثم بعد عامين أصبح مديرا عاما لمصلحة الإحصاءات العامة وهو في الـ27 من عمره، وفي هذه المصلحة قام الدغيثر بعمل أول تعداد للسعوديين والمقيمين، غير أن هذا الإحصاء المبكر لم يفصح عنه، بل بقي رقما خاصا لدى المصلحة، وكان السبب في عدم الإفصاح عنه هو ما أظهرته الأرقام من قلة عدد السكان حينذاك!

* إلى معهد الإدارة

* بعد أن أسس الدغيثر مصلحة الإحصاءات العامة ووضع أسسها وأنظمتها، ومارست دورها في إجراء أول تعدد سكاني تحت إشرافه، ودع هذه المصلحة إلى معهد الإدارة العامة للعمل مساعدا للمدير العام الشيخ محمد أبا الخيل، وذلك في عام 1964م لأشهر معدودات، ليصبح بعدها وفي السنة ذاتها مديرا عاما لمعهد الإدارة العامة ولمدة 14 عاما، ارتبط المعهد باسمه واقترن به حتى بعد أن غادره، إذ لا يذكر المعهد اليوم إلا ويذكر الدغيثر، فهو المؤسس الثاني للمعهد وباني أنظمته، ومؤسس مكتبته الشامخة، الفريدة والمتميزة في العالم العربي.

جاء تأسيس معهد الإدارة العامة استجابة لتوصيات شركة «فورد» الأميركية التي استقدمتها الحكومة السعودية لدراسة الوضع الإداري المتدني، وتقديم الحلول الممكنة في الإصلاح الإداري والمالي وتطوير القوى العاملة في الدولة، فكان ثمة توصيات مهمة في هذا الجانب منها إنشاء المعهد ومشروع إنشاء أجهزة حكومية خارج عباءة البيروقراطية وغيرها. وقد أصدر الملك سعود عام 1960م مرسوما ملكيا بالموافقة على نظام المعهد، الذي من أبرز مهامه رفع كفاية موظفي القطاع العام وتدريبهم، والمساهمة في التنظيم الإداري للحكومة وإجراء البحوث الإدارية وغيرها. وقد ربط المعهد ماليا وتنظيميا بوزارة المالية والاقتصاد الوطني، وكان من حسن حظ المعهد وحظ مديره العام أن تولى رئاسة المجلس لمدة 13 عاما الأمير مساعد بن عبد الرحمن، وزير المالية والاقتصاد الوطني، والمدرسة الإدارية الفذة والمؤسس الأول والحقيقي لمعهد الإدارة العامة والحاضن والداعم للمواهب والكفايات الإدارية السعودية، فكان وجوده على رأس مجلس الإدارة خير داعم للمدير العام كي ينطلق نحو تنفيذ وتحقيق الأهداف العامة للمعهد دون أي عوائق، وهذا ما وجده محمد أبا الخيل ثم فهد الدغيثر في سنواته التي قضاها مديرا عاما للمعهد، حيث شهد المعهد في فترة إدارة فهد الدغيثر توسعا كبيرا وتنظيما جديدا نتيجة لتنوع البرامج التي جرى استحداثها والإدارات التي جرى إنشاؤها، فقد استُحدثت إدارة مستقلة لمكتبة المعهد وإدارة خاصة بمركز الوثائق كما جرى تأسيس مركز اللغة الإنجليزية ومركز البحوث والاستشارات الإدارية، الذي يمد خدماته واستشاراته ليس للجهات الحكومية السعودية فحسب، بل إلى عدد من دول الخليج وكثير من المنظمات العربية والإسلامية. كما جرى في عهد الدغيثر استحداث إدارة البرامج الإعدادية وإدارة البرامج العليا ومركز الوسائل السمع بصرية. كما جرى إنشاء برنامج خاص في المعهد يقدم دورة مكثفة في الأنظمة السعودية، مدته سنتان لخريجي كليات الشريعة، بحيث يتمكنون من العمل بعد البرنامج مستشارين قانونيين في الوزارات. يقول غازي القصيبي: «طلب مني الصديق الأستاذ فهد الدغيثر أن أشرف على هذا البرنامج. كانت المهمة تحديا مثيرا إلى أبعد الحدود، وقد أعطاني فهد كل الصلاحيات المطلوبة ووقف معي في كل خطوة من الطريق. وضعت مفردات المنهج بالتشاور مع عدد من المختصين، واتفقت مع بعض الزملاء السعوديين على التدريس فيه. سافرت إلى القاهرة للتعاقد مع أساتذة جامعيين مصريين. كان البرنامج يقتصر على تدريس الأنظمة السعودية المطبقة في البلاد، ولم تكن له أي علاقة بقوانين أجنبية غير إسلامية، إلا أن بعض الأخوة الكرام المشتغلين بالعلوم الشرعية لم يتمكنوا من فهم طبيعة البرنامج وتصوّروه مقدمة لتطبيق القوانين الأجنبية الوضعية في المملكة. كنت خلال الإعداد للبرنامج قد اجتمعت بعدد من هؤلاء الإخوة، ولاحظت هذا القلق، وتحدثت عن البرنامج بإسهاب، وتصورت أنني نجحت في إزالة مخاوفهم. حقيقة الأمر أنني لم أنجح في هذا المسعى». ورغم أن غازي القصيبي لم ينجح في مسعاه، فإن البرنامج أخذ طريقه بفضل جهود الدغيثر، الذي لم يتراجع ولم يتضعضع له كاهل أمام تلك المطالبات والنداءات التي شوهت صورة البرنامج وعملت جهدها على إيقافه. واليوم، فإن أغلب المستشارين القانونيين في وزارات الدولة هم من خريجي هذا البرنامج، الذي أسسه الدغيثر قبل تأسيس قسم القانون في جامعة الملك سعود بسنوات، فكان أن سد البرنامج فراغا كبيرا في قطاع الاستشارات القانونية والمحاماة في أجهزة الدولة المختلفة. كما اهتم الدغيثر ببرنامج الابتعاث لموظفي ومدربي المعهد، حتى إنه في سنة من السنوات كان عدد المبتعثين من معهد الإدارة يفوق عددهم ممن ابتعثتهم وزارة المعارف، حينما كانت هي المسؤولة عن الابتعاث.

كان فهد الدغيثر حازما وحاسما في إدارته للمعهد، يأتي للمعهد في ساعة مبكرة جدا، وكان يسبق موظفي المعهد في الحضور، ليبدأ بتفقد قاعات التدريب بنفسه ثم يزور الموظفين وأعضاء هيئة التدريب في مكاتبهم، ويكتب لكل موظف غير موجود في مكتبه ورقة صغيرة: «صباح الخير.. فهد الدغيثر»، وينصرف! ويذكر الدكتور هلال العسكر، أحد أعضاء هيئة التدريب في المعهد، أنه حضر ذات يوم إلى المعهد مبكرا وقبل بدء الدوام بساعة، فوجئ بأن مدير عام المعهد في حديقة المعهد يقلم أشجارها! فسأله: أنت يا صاحب المعالي من يقلم الأشجار؟ أين العمال؟ فرد عليه: كلنا عمال! فباشر الدكتور هلال العمل معه من الساعة السادسة والنصف إلى السابعة والنصف، موعد بدء الدوام! كان الدغيثر عمليا إلى أبعد حد، لا تستهويه المظاهر، ولا يحبذ لبس المشالح، لذلك كان كثيرا ما يكون في مكتبه أو في اجتماعاته أو في جولاته الصباحية حاسر الرأس، وقد فوجئ الشاب إبراهيم المنيف حينما تقدم إلى مكتب المدير العام طالبا وظيفة في منتصف الستينات ووجد الدغيثر من دون غترة أو عقال. يقول المنيف: «هذه ظاهرة أراها لأول مرة لمدير عام مسؤول دون غترة وعقال! لا شك أنه أبهرني بلطفه وأسئلته الذكية عن تمكني من اللغة الإنجليزية. أذهلني تواضعه وسرعته في اتخاذ القرار الذي قدمه باتصاله مع مدير عام الشؤون المالية والإدارية صالح العمير، الذي وجهني إلى مدير شؤون الموظفين محمد الطويل، وفي اليوم نفسه توجهت لإجراء الفحص الطبي في مستشفى الشميسي».

وذات مرة في أواخر الستينات كان فهد الدغيثر يرأس اجتماعا في المعهد، وكان كعادته حاسر الرأس، وإذا بسكرتيره يخبره همسا بأن الأمير نايف بن عبد العزيز قدم إلى المعهد في زيارة خاصة، ولم يكن الأمير نايف وقتها قد تعين نائبا لوزير الداخلية، فما كان من فهد الدغيثر إلا أن نزل مسرعا ليستقبل ضيفه الذي قدم دون موعد مسبق، فاستقبل الدغيثر الأمير نايف دون غترة وعقال! واعتذر له بأنه كان في اجتماع لإدارة المعهد، فقال له الأمير نايف إنني جئت لزيارتكم نظرا لما سمعته عن المعهد من تميز في برامجه، وإنني أرغب الانضمام إلى برنامج اللغة الإنجليزية، فأخذه الدغيثر إلى مدير برنامج اللغة الإنجليزية، الذي شرح له البرنامج ومدة كل دورة، فعرض الأمير نايف على الدغيثر الانصراف إلى عمله إن أراد، فانصرف الدغيثر ليواصل اجتماعه.

لذلك كان المعهد طيلة وجود الدغيثر نموذجا فريدا في الانضباط. كانت فلسفته الإدارية أنه لكي تضبط حضور موظفيك، عليك أن تحضر مبكرا وتخرج بعدهم! يقول الدكتور المنيف عن تلك المرحلة: «أعتقد جازما أنه لم يأتِ قائد إداري مماثل له، من حيث قدراته الإدارية المميزة، التي أسست جذورا في معهد الإدارة العامة في التركيز الشديد على الوقت والالتزام به بشكل لافت، فالحضور والدوام وبدء المحاضرة يكون بالدقيقة، ودون تأخر لأي أستاذ أو طالب مهما كانت الظروف. هذه ظاهرة أسسها فهد الدغيثر وبقيت من بعده، واستدامت بكل تجذر دون منازع».

كان معهد الإدارة العامة في عهد فهد الدغيثر أول جهة حكومية تطبق نظام المكاتب المفتوحة في أغلب إداراته، خاصة المكتبة. يقول الدكتور المنيف، الذي تولى إدارة مكتبة المعهد: «ساهمت سيدة فاضلة أميركية شابة تحمل الماجستير في علم المكتبات وزوجة أحد الخبراء الاقتصاديين من لبنان، بوزارة المالية آنذاك، بالعمل معي في المكتبة المفتوحة دون سواتر أو قواطع، وضمن فريق العمل. كانت هذه السيدة تحضر يوميا إلى مكتبة المعهد بملابسها العادية وفستانها القصير، وتعمل معنا أنا وزملائي أحمد المعجل وعبد الله العوهلي ومصطفى السدحان وعبد الرحمن الجويرة، بمكاتبنا المفتوحة أمام جميع مرتادي المكتبة، الذين كان عدد كبير منهم من العاملين في المعاهد الدينية العليا. أتذكر جيدا أن أحد كبار المديرين وأصبح وكيلا لوزارة العدل لاحقا ممن كان ببرنامج اللغة الإنجليزية، والإدارة المتوسطة بوظيفة مدير عام، يتردد يوميا على المكتبة حينذاك، لم يقل شيئا ولم أسمع منه أو من غيره أي ملاحظة أو تعليق على وجود هذه السيدة معنا».

من الإسهامات المهمة لفهد الدغيثر في معهد الإدارة بناء وتأسيس مكتبة المعهد وتزويدها بكل المراجع الخاصة في الاقتصاد وعلم الإدارة باللغتين، العربية والإنجليزية، حتى غدت المكتبة فريدة من نوعها في العالم العربي، ومعلمة ثقافية في مدينة الرياض يزورها ضيوف الدولة من سياسيين وغيرهم، وقد تعرضت المكتبة لهجوم عنيف من عدد من المتشددين في منتصف السبعينات بوصفها تضم كتبا شيوعية وقد شكلت لجنة أبطلت تلك الادعاءات.

وطيلة عمل الدغيثر في إدارة المعهد كان يضع على مكتبة لوحة مكتوب عليها كلمة واحدة فقط، هي: «فكر»! وبإجمال فإن المحامي محمد الهوشان يوجز دور معهد الإدارة ودور قائده الدغيثر، بقوله: «ما كان للإدارة الحكومية أن تصل إلى ما وصلت إليه من تطور، لولا هذا المعهد العتيد، الذي أرسى قواعده الفقيد».

* في الجمارك أيضا

* أثناء انهماك فهد الدغيثر في عمله في معهد الإدارة العامة وفي ذروة إنتاجه وعطائه، خاصة بعد أن تحسنت موارد الدولة في مطلع السبعينات الميلادية، وزادت ميزانية المعهد عما كانت عليه من قبل، كلفه الأمير مساعد بن عبد الرحمن وزير المالية والاقتصاد الوطني بالعمل مشرفا عاما على مصلحة الجمارك العامة، إضافة إلى عمله مديرا عاما لمعهد الإدارة العامة، وذلك نتيجة لما كانت تشهده مصلحة الجمارك من مشكلات مالية وإدارية تفاقمت عبر السنين، فلم يجد الأمير مساعد بدا من تكليف الدغيثر، الذي نهض بالمعهد وأوقفه على قدميه صرحا إداريا، فقبل الدغيثر التحدي الكبير وتوجه إلى مصلحة الجمارك العامة، محملا بخبرته الإدارية الكبيرة وبحزمه وعزمه وصرامته المعهودة وعدم مجاملته لأي أحد، مهما كان، على حساب العمل والنظام.

في فترة زمنية وجيزة نهضت مصلحة الجمارك العامة من سباتها، وانحلت مشاكلها المالية والإدارية، وأصبحت نموذجا من نماذج الإدارات الحكومية المميزة، حيث أعاد الدغيثر هيكلتها وأرسى فيها قواعد وأنظمة للعمل الإداري المنظم، ولم يستثن أحدا من نظام الجمارك طيلة عمله مشرفا عليها.

* إلى القطاع الخاص

* مع كل هذه الإنجازات الإدارية الفذة التي برع فيها الدغيثر على مدى 20 عاما من العمل الحكومي، ورغم تفانيه ووطنيه التي شهد له بها الجميع، إلا أنه آثر الخروج من العمل الحكومي برغبته واختياره، رغم إلحاح الكثيرين عليه من أصدقاء وزملاء، ورغم ما يمثله خروجه من خسارة كبرى في الإدارة السعودية، الذي كان هو أحد بناتها ومرسيي دعائمها، ورغم أنه عرض عليه – كما يقول أصدقاؤه – العمل وزيرا للصحة، إلا أنه قد عزم أمره بالرحيل، فكان له ذلك في عام 1978م.

ويعلل الأستاذ تركي الخالد السديري سبب خروج الدغيثر من العمل الحكومي بأنه نتيجة للتحولات التي طرأت على المشهد المحلي، من الناحية الإدارية والمالية، حيث جرى في عام 1975م تشكيل مجلس وزراء جديد خرج منه الأمير مساعد بن عبد الرحمن وزير المالية والاقتصاد الوطني، والذراع اليمنى للملك فيصل بن عبد العزيز في تنفيذ مشروع الإصلاح الإداري، إضافة إلى الصعود الكبير في أسعار النفط، وبالتالي الارتفاع غير المعهود في واردات الميزانية، وكان لهذه التحولات أثر سلبي على مسيرة برنامج الإصلاح الإداري، إذ بحكم الوفرة المالية أصبح التركيز يجري على الجانب الكمي على حساب النوعية.

يقول الأستاذ تركي الخالد السديري: «أهملت في هذا المضمار البدائل التنظيمية الأفضل لتنفيذ تلك المشاريع، وخاصة ما له صلة بحسن الأداء في غالبية ما كان يبذل من أنشطة إدارية وفنية ذات الصلة بما يدور ضمنها بتلك المرحلة»، حيث أخذ برنامج الإصلاح الإداري في التراجع بصورة تدريجية، وجرى الاستغناء عن خبراء مؤسسة «فورد». يضيف السديري قائلا: «تابع الأخ فهد عن كثب هذه التحولات بحكم صلته الوثيقة بالبرنامج وما كان يمكن أن يحققه في مراحل أخرى مقبلة، لو استمر على ذات المنوال، وفي ضوء ذلك اختار الأخ فهد النأي بنفسه نهائيا عن مسؤوليات العمل الرسمي عندما طلب إحالته للتقاعد».

ورغم أنه تقاعد وغادر العمل الحكومي، فإنه أرسى دعائم مؤسسة إدارية فريدة، كان لها طلابها المخلصون، الذين تأثروا به واقتفوا أثره، منهم على سبيل المثال مطلب النفيسة ومحمد الطويل وصالح العمير وعبد الرحمن أبو حيمد وحمد الرشودي ومنصور عبد الغفار وحمد الشاوي وعبد الرحمن الشقاوي، وغيرهم ممن تسنموا مناصب إدارية قيادية عالية في الإدارة السعودية.

وكانت الحكومة السعودية قد أسست الشركة العقارية السعودية في عام 1976م، وقد أصدر ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء آنذاك الأمير (الملك) فهد بن عبد العزيز قرارا بتعيين الأستاذ فهد الدغيثر رئيسا لمجلس إدارة الشركة ورئيسا تنفيذيا لها. ومن أبرز أهدافها تملك الأراضي وتطويرها وإقامة المباني السكنية والتجارية وشراء وإنتاج المواد والمعدات اللازمة للبناء وبيعها وتأجيرها. وجرى طرح عدد من أسهمها في السوق المالية، وقد مكث الدغيثر عشرة أعوام في هذه الشركة حققت خلالها كثيرا من المنجزات والقفزات المتتالية، ومن أبرز المشاريع التي وقف الدغيثر عليها بنفسه وأشرف على قيامها مشروع عقارية الستين، وكذلك مشروع بناء 1500 وحدة سكنية في العليا مع مشروع عقارية العليا رقم 1 وعقارية العليا رقم 2. كما جرى تنفيذ عقارية الستين الثانية، وتنفيذ عدد من الوحدات السكنية في حي السفارات، وكذلك مشروع شارع الضباب، وغيرها من مشاريع.

وفي منتصف الثمانينات، قرر الدغيثر أن يتفرغ لنفسه ولأبنائه، فغادر الشركة العقارية بعد أن بناها بنفسه وتعهدها بالرعاية والاهتمام، وظل حتى انتقاله إلى جوار ربه (صيف 2012م) موئلا ومقصدا لأصدقائه ومحبيه والمعجبين به يستقبلهم في منزله في حي النموذجية، وانهمك في القراءة المتنوعة، ويحتفظ بمكتبة منزلية قل نظيرها. وطيلة مسيرته تزوج مرتين؛ الأولى مضاوي الدغيثر، وبعد فراق تزوج الجوهرة آل الشيخ، وأنجب من الأبناء والبنات زياد وعماد وفؤاد وسعود وبدر وعبد الله ونوف وفدوى. وقد درس جميع أبنائه في الجامعات الغربية على نفقته الخاصة رافضا ابتعاثهم على نفقة الحكومة كي لا يأخذوا مقاعد هناك من الشباب السعوديين هناك من يستحقها أكثر منهم! وحينما كان ابنه زياد يدرس في أميركا مطلع الثمانينات تعرف إلى شاب سعودي يدرس على حسابه الخاص، فرغب هذا الشاب من زياد أن يطلب من والده أن يسعى له بإلحاقه بالبعثة السعودية، فجرى له ذلك خلال أقل من أسبوع! واليوم ورغم ضخامة برنامج الملك عبد الله للابتعاث، إلا أنه ابنه عبد الله يدرس في جامعة جنوب كاليفورنيا على نفقة والده، للسبب ذاته، وهو أن لا يأخذ مقعدا هناك من هو هناك أولى منه به! إن سيرة ومسيرة فهد الدغيثر يختصرها صديقه أمير نجران الأسبق الأستاذ فهد الخالد السديري بقوله: «كان عملاقا في نزاهته، متمكنا في حسن إدارته، ضالعا في الخبرة والموهبة الاقتصادية، وكلما تذكرت إنسانيته ووفاءه وكرمه زادت الحسرة عليه».

المصدر: الشرق الأوسط