كاتب وصحفي لبناني
لاحظ عدد من المراقبين مفارقة دالّة، وهي أنّ رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال سليمان كان يغادر قصره بهدوء، مع انتهاء ولايته الرئاسية، فيما كان الرئيس السوري بشار الأسد يمضي في حملته لـ«الانتخابات» الرئاسية، طامحاً في تجديد ولايته، وسط كمّ لا يُحصى من القتل والدمار والتهجير الذي تسبب فيه.
هذه المفارقة -المقارنة جاءت تردّ على سردية سائدة في الفكر السياسي العربي، لاسيما منه القومي والراديكالي، مفادها أن لبنان أكثر بلدان المشرق العربي، بل العالم العربي، اصطناعية وهشاشة.
والحال أن لبنان لا يخلو من الاصطناع والهشاشة، مثل معظم البلدان حديثة الولادة التي نشأت إمّا بعد الحرب العالمية الأولى أو بعد الحرب العالمية الثانية، والتي صارت تشكل اليوم الأغلبية الكاسحة بين البلدان الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة. كذلك فإن التكوين الطائفي للمجتمع اللبناني وانعكاس ذلك على البنيتين السياسية والثقافية فيه جالبان لأزمات لا تنتهي، أزماتٍ يعيش اللبنانيون حالياً بعض أكثرها شدةً واحتداماً.
مع ذلك فالقول إن لبنان هو الأكثر هشاشة واصطناعاً قول يستنفر الكثير من التحفظ، وخصوصاً أن ما يقارب المليون ونصف المليون من السوريين يعيشون فيه الآن بعدما هجّرهم نظامهم وحربهم الأهلية، وهؤلاء معطوفون على ما يُقدر بأربعمائة ألف فلسطيني نزحوا عن بلدهم بفعل نكبة 1948 ثم نكسة 1967.
واقع الحال أن الصورة المرسومة للبنان بوصفه البلد الأكثر هشاشة واصطناعاً ليست بريئة تماماً. فقد تضافرت لإنتاجها خرافات عدة، منها أن لبنان قد فُصل عن سوريا بينما الحقيقة أن سوريا الحالية ولبنان الحالي هما سواء بسواء جزءان من السلطنة العثمانية. ومن تلك الخرافات ما هو كامن في الثقافة القومية الراديكالية لجهة الولع بالبلدان الكبيرة ذات الجيوش الجرارة والسوق الاقتصادية الكبرى التي تصلح أن تكون قاعدة مادية للإنتاج. وغني عن القول إن لبنان لا تنطبق عليه تلك المواصفات المستلهَمَة من تجربتي الوحدة الألمانية والإيطالية في أواخر القرن التاسع عشر كما من تجربة الاتحاد السوفييتي بعد نشأته في 1917. ولاشك في أن الدور المسيحي الوازن في نشأة لبنان كما في مساره التاريخي لم يجعله قطباً جالباً للعواطف في المنطقة.
لكننا إذا قسنا المآسي اللبنانية، خصوصاً منها الحرب التي اندلعت في 1975 واستمرت على شيء من التقطع على مدى 15 عاماً، وجدناها صغيرة جداً بمقياس المآسي التي تعرضت لها الدول المجاورة للبنان، بحيث يتبدى أن الأعمدة التي قام عليها الوطن اللبناني أقوى من الأعمدة التي قامت عليها تلك الدول.
صحيح أن الفلسطينيين وجدوا أنفسهم يواجهون قوة أوروبية المنشأ تتفوق عليهم إعداداً وتدريباً وكفاءة. لكن الصحيح أيضاً أن النصر السهل الذي حققته الحركة الصهيونية في 1948 ما كان ليتحقق لولا الحرب الأهلية التي شهدها المجتمع الفلسطيني في 1936 بين الحزبية العائلية التي تزعمها آل الحسيني والحزبية الأخرى التي تزعمها آل النشاشيبي. وقد كان لهذه الحرب، التي دلت إلى المسافة الهائلة التي تفصل الواقع الفلسطيني عن الوطنية بمعناها الحديث، أن سلمت الفلسطينيين جثة عديمة الحياة للمجموعات الصهيونية المسلحة.
أما العراق وسوريا الحديثان فتعاقبت عليهما الانقلابات العسكرية التي كانت تنمّ عن صعوبة استقرارهما على نمط سياسي تنعكس فيه إجماعات شعبيهما. لقد افتتح العراق حركة الانقلابات العسكرية العربية بانقلاب بكر صدقي في 1936، بعد ذاك كانت الحركة الانقلابية لرشيد عالي الكيلاني وضباط «المربع الذهبي» الفاشيين في 1941. أما في 1958 فأطيحت الملكية بانقلاب عسكري شديد الدموية أعقبه انقلاب حزب «البعث» عليه في 8 فبراير 1963، ثم كان الانقلاب على الانقلاب في أواخر العام نفسه، قبل أن ينقض «البعث» مجدداً على السلطة في 1968، ثم ينقض صدام حسين على رفاقه البعثيين في 1979. وهذا من دون أن نحتسب المحاولات الانقلابية الكثيرة التي لم يُكتب لها النجاح على مدى الحقبة تلك.
والشيء نفسه يقال عن سوريا التي ما إن استقلت في 1946 حتى شهدت انقلابها العسكري الأول بزعامة حسني الزعيم في 1949، الذي تلته ثلاثة انقلابات في العام نفسه كان آخرها انقلاب أديب الشيشكلي الذي استكمله بانقلاب آخر في أواسط الخمسينيات. فما إن أطيح الشيشكلي حتى بدأت حرب أهلية صامتة بين مؤيدي التحالف مع مصر، ومعظمهم دمشقيون، ومؤيدي التحالف مع العراق، ومعظمهم حلبيون. وبالفعل ظن سوريون كثيرون أنهم يهربون من مواجهة تناقضاتهم بتقديم بلدهم هدية لمصر الناصرية. هكذا قامت وحدة 1958 المصرية- السورية التي عادت فانهارت في 1961، وهو العام الذي شهد انقلاباً آخر على الانقلاب، وهكذا دواليك إلى أن أطاح البعثيون، في 1963، السلطة «الرجعية». وبعد تصفيات دموية متواصلة لخصومهم تخلص «اليسار البعثي» في 1966، عبر انقلاب عسكري آخر، من «اليمين البعثي»، قبل أن يتخلص حافظ الأسد في 1970، وأيضاً بانقلاب عسكري، من رفاقه في «اليسار البعثي».
وهذا، على عمومه، ما لم يعرفه لبنان الذي نجا من الانقلابات العسكرية باستثناء محاولتين مسرحيتين هزيلتين، إحداهما رعاها الحزب القومي السوري في آخر أيام 1961، والثانية قادها الضابط عزيز الأحدب في 1975. والمحاولتان انتهتا في مهدهما.
وكان ما نجّى لبنان من القدر الانقلابي أن الجيش لم يحتل موقعاً مركزياً في حياته السياسية. هكذا أتاحت حريته -على فوضاها واستعدادها للتحول إلى تنازع أهلي- مجالات لتنفيس الاحتقانات الأهلية لا تنحصر في العنف. وهذا، بطبيعة الحال، ليس شهادة لصالح التجربة اللبنانية التي تستحق الكثير من النقد، والتي إذا ما قيست بأية تجربة ديمقراطية ناضجة في الغرب بدت كاريكاتوراً ديمقراطياً سخيفاً. إلا أننا إذا ما قسناها بما نعرفه من تجارب سياسية في منطقتنا بدت متقدمة عليها جميعاً.
المصدر: الإتحاد