بعض الناس غير واثقٍ بقدرة الإسلام على التعامل مع تحديات العصر الجديد. لهذا يتساءل بصيغة: «هل يستطيع الإسلام؟». آخرون يعتقدون أن الإسلامَ قادرٌ (أو ينبغي أن يكون قادراً)، ولهذا فإن سؤالَهم يأتي في صيغة: «كيف يستطيعُ الإسلام؟».
والذي يتراءَى لي أن كلا السؤالين معقول، بل قد يكون ضرورياً. كل فكرة تدعو الناس إلى اتباعها، فإن للناس حقاً مشروعاً في أن يتساءلوا عنها، وأن يشككوا فيها، وأنْ يطلبوا البرهان على سلامتها، قبل وبعد أن يتَّبعوها. من ناحية أخرى فإنَّ أي نظام فكري أو قانوني، يحتاج إلى مراجعة بين زمن وآخر، للتحقق من قدرة عناصره على تحقيق الغايات التي يفترض أن تنتج عن تطبيقها أو الالتزام بمقتضياتها.
نعرف أنَّ لكل جزءٍ من أجزاء الدين وظيفةً أو غايةً يُبتغى بلوغها.
قد نتحدث عن الإيمان والعبادة فنقول إن غرضهما تعميق صلة الإنسان بربه. ونتحدث عن الشريعة (القانون) فنقول إن غرضها تحسين مستوى معيشة البشر، أو نتحدث عن القرآن فنقول إن غرضه إثارة العقول ودفعها للتفكر في الخلائق، ما هو مشهود وما هو غيب، معانيها وسبل كشفها والسنن الناظمة لها، والصلات القائمة بين أجزائها وعناصرها.
قد يحصل أحياناً أن تتلاشى فاعلية أحد الأجزاء المذكورة، فتنقطع صلته بموضوعه. فنقول إن هذا الجزء قد تخلف عن زمنه. دعنا نأخذ على سبيل المثال عقوبة القتل، التي تطبق باعتبارها حداً أو قصاصاً أو تعزيراً بحسب الموجبات المختلفة. فقد ورد أن غرضها صون الحياة. وقال بعض المفسرين والفقهاء إن غرضها ردع الجناة عن تكرار جريمة القتل. والمفهوم أن الردع هو الغرض الأول لمعظم العقوبات.
حسناً… ماذا لو لم تعد هذه العقوبة رادعة؟ أو ماذا لو توصلنا إلى أن عقوبات أخرى غير القتل، تحقق الردع المقصود. فهل نقول حينها إن الأحكام تابعة لمقاصدها وعللها، وبناء عليه نوقف تطبيق عقوبة القتل؟
لقد ضربت هذا المثل بالخصوص، لأن أبحاثاً في دول أوروبا الغربية قدَّمت استنتاجات مثيرة للاهتمام، خلاصتها أن هذه الدول التي مضى على إلغائها لعقوبة الإعدام، بين 20 – 40 عاماً، لم تشهد زيادة ملحوظة في جرائم القتل. هذا يعني أن تلك العقوبة بذاتها لم تكن رادعة كما نتصور.
ثمة دول أخرى تقول إن عقوبة الإعدام ساعدت في تخفيض الجرائم. هذا يعني أن عوامل أخرى تتدخل، فتجعل العقوبة مجدية في مكان وغير مجدية في مكان آخر.
ولدينا أمثلة أخرى من المعاملات المالية، بما فيها الزكاة، ولدينا الأحكام التي لها علاقة بالمفهوم الحديث لحقوق الإنسان، ولا سيما المساواة وحرية الاعتقاد والتعبير. مجموعة كثيرة من الأحكام المتعلقة بهذه السياقات مدعومة بآيات وروايات. لكن مفهومها أو موضوعها تغيَّر، نتيجة لتغير الإطار العام الذي يحوي هذا الموضوع إلى جانب غيره. الإطار العام المقصود هو البنية الاجتماعية، بما تحويه من ثقافة واقتصاد ونظام قيم وأنماط معيشة ووسائل اتصال.
إن العبرة التي نستفيدها من تجاربنا وتجارب الآخرين، هي أننا كبشر عقلاء مطالبون بالإحسان في حياتنا، ومن الإحسان أن يكون الحكم أو القانون الذي نطبِّقُه على حياتنا، وسيلة إلى جعلها أحسن وأكمل. فإذا تبيَّن أنه لا يؤدي هذه الوظيفة، فهل ينفعنا قول: إنا وجدنا هذا في النصوص التي ورثناها، فطبقناه بغض النظر عن مقصده أو جدواه الفعلية؟
المصدر: الشرق الأوسط