فجأة ومن دون مقدمات صارت «الديموقراطية» محور جدالاتنا وخصوماتنا العربية، وهي التي إلى وقت قريب كان بعضنا – وكثيرهم ما زال – يكفر من ينادي بها. عند بعضنا اليوم، هذه الديموقراطية صارت مبدأ وقناعة لا فكاك عنها ما دامت طريق آمنة وسريعة للسلطة. وبعد الوصول للمبتغى تتحول فجأة إلى «مطية» تُمارس عبرها كل أشكال الاستبداد والإقصاء. من قال إن الوصول لسدة الحكم، عبر صناديق الاقتراع، يعطي الحق لتغيير قوانين اللعبة الديموقراطية ويحيل إدارة الدولة إلى ما يشبه إدارة شركة العائلة؟ الرئيس الأميركي نفسه حتى وإن وصل للبيت الأبيض بغالبية تصويت ساحقة يظل محكوماً بقواعد وقوانين يحكمها الدستور وتراقبها أعين الناخبين.
أما أن يعتقد بعضنا أن الفوز في الانتخابات يمنح الحق المطلق في إصدار أي قرار وإلغاء أنظمة وقوانين كبرى، ويقدم «الثقة» على الخبرة في اختيار الوزراء والمدراء، إنما يؤكد فهماً قاصراً لهذا الوليد الجديد الذي نسميه ظلماً «ديموقراطية»!
وإذا كانت الديموقراطية تعني «حكم الشعب لنفسه» فماذا نقول إن كانت الغالبية الساحقة من الشعب ترفض وتحتج على ما أفرزته هذه الديموقراطية؟ لا يمكن أن تسلمني رخصة قيادة ثم أنطلق في سيارتي بكل تهور متجاوزاً حدود السرعة عابثاً بكل قواعد وقوانين القيادة وحينما توقفني دورية المرور أصرخ في وجهها: أتركوني وشأني… ألستم من أعطاني رخصة القيادة؟ في عالمنا العربي تبقى المشكلة مشكلة ثقافة ووعي وتنمية. ففهمنا للوصول إلى السلطة مقتصر على ممارسات قديمة صارت أساساً في ثقافتنا وتاريخنا. لا نفرق بين السلطة والتسلط. ولا بين السلطة والإدارة. ولا بين السلطة والمسؤولية. ومثلما أستخدم الدين طويلاً غطاءً لتبرير الهيمنة والسيطرة واحتكار السلطة تأتي «الديموقراطية» اليوم كمبرر جديد للهوس بالسيطرة والهيمنة على كل مفاصل الدولة. تبدلت «الأغطية» وبقيت الغاية! ويا للدهشة: فمن كان بالأمس القريب يتهم مخالفيه بالعلمنة والليبرالية والأمركة، صار اليوم يزايد على الجميع وهو يشرع في بكائية جديدة يتحسر عبرها على «الديموقراطية» و «الحريات» التي غُدر بها ويتهم الجميع بالتآمر لوأد أنضج صورها في التاريخ الإنساني كله! هكذا كانت ردة فعل المتحمسين الجدد للديموقراطية على شباب حركة «تمرد» كما لو أن العشرين مليون مصري ممن خرجوا احتجاجاً صارخاً على تسلط «الإخوان» ليسوا سوى أعداء للحرية وقطعان من الفلول والخونة!
وهؤلاء الذين يتهمون الجيش المصري بالخيانة ويصفون نصرته للعشرين مليون مصري وأكثر بالانقلاب على الشرعية، هم أنفسهم من صفق لذات الجيش حينما انتصر لشباب مصر في ثورة 25 يناير التي أُختطفت من شباب مصر واحتكرها الإخوان ومن في معيتهم من تيارات الإسلام السياسي. كيف يكون جيش مصر جيشاً وطنياً عظيماً في ثورة 25 يناير فيما يُتهم في ثورة 30 يونيو بأنه انقلابي وخائن؟
من دون جدال فأعداد المصريين الذين خرجوا في مسيرات تطالب بالإطاحة بالرئيس محمد مرسي كانت أضعافاً مضاعفة لتلك التي خرجت تطالب بالإطاحة بحسني مبارك. إذاً كيف يكون هذا الجيش بطلاً في الثورة الأولى… خائناً في الثورة الثانية؟ ومع هذا نقر بأن من حقك –إن شئت- أن تدافع عن «شرعية» مرسي وتطالب بعودتها. لكن ليس من حقك أبداً أن تُخوّن من طالب بإزاحته بعد فشله الذريع وتخليص مصر من هيمنة جماعته وضيق أفقها.
في ظل هذا الجو المتأزم تبقى نقطة الضوء الوحيدة آتية من جيل مصري جديد رأيت بعض ملامحه في ميدان التحرير وفي مبادرات شبابية خلاقة على طول العالم العربي وعرضه. فالشباب الذين بدأوا ثورة 25 يناير ثم عادوا إلى ميدان التحرير في 30 يونيو يشكلون الآن نواة لوعي سياسي جديد في العالم العربي كله. هؤلاء لن تبهرهم طويلاً الوعود الكبيرة ولا الخطب الرنانة. إنهم يبحثون عن منهج إدارة جديد يصنع الفارق الحقيقي في مستوى معيشة الناس وفي الحريات وفي مشاريع التنمية الحقيقية. وهم حرروا أنفسهم من تبعية الأيديولوجيا وعبوديتها لأنهم أبناء اليوم لا أسرى لجدالات وخلافات الأمس. هؤلاء تشغلهم التنمية أكثر من الأيديولوجيا. إنهم يتطلعون لغد أفضل حيث الحكم فيه للعقل لا للعواطف والوعود الخاوية. إننا أمام أجيال جديدة لن تخيفها لا دبابات العسكر ولا فتاوى التكفير وخطابات التخوين. لقد عقدوا العزم على المشاركة الفاعلة في بناء دولة المستقبل على أسس من الوعي والعقل وفهم تحديات المستقبل وإمكاناته. وهم يعرفون عز المعرفة أن الشعوب لن تحيا بالأيديولوجيات والأفكار المنغلقة بل تنتحر بها. وواضح جداً أنهم قد بدأوا عملياً في قيادة التغيير في محيطهم. ومثلما صنعوا الأحداث المهيبة في 25 يناير و30 يونيو فإنهم سيستمرون في صناعة الأحداث التي حتماً ستمهد طرق فسيحة لمستقبل تقوده الحكمة والمعرفة ويراقبه العقل والوعي.
البركة – فعلاً- في الشباب!
المصدر: صحيفة الحياة