صحافي لبناني مقيم في لندن. حائز إجازة في العلوم السياسية من الجامعة الأميركية في بيروت وماجستير من معهد الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن.
على الرغم من مرور السنين وتعدّد التجارب نجح الفلسطينيون – في معظم الأوقات – في كسب تعاطف أشقائهم العرب وغالبية المجتمع الدولي… وذلك لأن قضيتهم عادلة والظلم اللاحق بهم منذ 1948 نادر المثال.
الظلم الذي لحق بالشعب الفلسطيني لا جدال فيه إلا إذا كان لدى المشكّك غايات خاصة، والشيء نفسه يُقال أيضا عن الظلم الذي لحق بالشعب اليهودي عبر القرون. والمؤسف أننا نشهد اليوم كيف ينزلق شعبان مظلومان كالفلسطينيين والإسرائيليين إلى صراع وجودي… بعدما خفتت أصوات الاعتدال والتعقل، وغلبت على الشارعين النزعة إلى الغلبة… بل الإلغاء.
وهنا أزعم أنه إذا كانت النكسات المتلاحقة التي لحقت بالفلسطينيين قد توفِّر أعذارا ليأسهم من نزاهة مجتمع دولي لم يلمسوا منه إلا الانحياز المطلق لغريمهم، وسقوط رهانهم على أمة عربية واهنة مشتتة ها هي مهدّدة الآن بكارثة تفتيت لا تبقي ولا تذر، فما هي الأعذار التي تدفع الشعب الإسرائيلي للهروب من «الديمقراطية» إلى «العسكرة» بعد عدد من الانتصارات الحربية التي أتاحت لإسرائيل بعد حرب يونيو (حزيران) 1967 احتلال أراض تزيد مساحتها أضعافا عن مساحتها الأصلية؟
لقد قصّر الفلسطينيون في فهم طبيعة الحركة الصهيونية منذ بداية القرن العشرين. واستمرت الرهانات الخاسرة بعد تأسيس الدولة اليهودية. ولكن المسؤولية ما كانت مسؤولية الإنسان الفلسطيني وحده، فالعالم العربي كله عاش أيضا فورة «العروبة» من دون ينجح في تعريفها، واندفع وراء أوهام وأحلام، واستخف بقيمة الإنسان وحريته وكرامته في ذلك السيل «الشوفيني» العرم من أجل «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة» تمتد من «المحيط إلى الخليج» ! وبالنتيجة، التصقت «العروبة»، وبالذات بوجهها «الثوري» التقدّمي، بصفتين سلبيتين متلازمتين متلاصقتين هما «الشعبوية» والانتهازية السياسية التي أفلح طغاة «الثورية» في استخدامها أستارا لتخلفهم وعشائريتهم وطائفيتهم.
وكون الفلسطينيين جزءا من واقع العالم العربي، فتح هذا العالم العربي دكاكينه داخل حركة المقاومة الفلسطينية. وحتى مع مبايعة منظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني كان هذا النظام وذاك يموّل دكاكينه تحت مظلة المنظمة، في أعقاب هزيمة 1967. كذلك كان الفلسطينيون، مثل كثرة من العرب، جزءا من «حركة التحرّر العالمية» المناوئة لـ«الاستعمار» و«الإمبريالية» التي سارت على خطى الاتحاد السوفياتي السابق والصين الشعبية، في وجه الغرب الرأسمالي.
وفاة جمال عبد الناصر وتغيير أنور السادات وجهة مصر نحو التفاهم مع الولايات المتحدة كانا تطوّرين مؤثرين في مسيرة النضال الفلسطيني. فالتنافس على وراثة تركة عبد الناصر «العروبية» احتدمت لفترة بين بعثيي بغداد ودمشق… من دون أن ننسى دور ليبيا القذافي وسودان نميري. ثم انعكس على الساحة الفلسطينية استنهاض السادات – الذي تبنّى ذات يوم لقب «الرئيس المؤمن» – قوى «الإسلام السياسي» باستخدامها سلاحا في معركته ضد بقايا الناصريين، وتراجع أسهم الخيار العروبي بعد توقيع «اتفاقيتي كامب ديفيد»، بصعود حركة حماس على حساب حركة فتح والتنظيمات اليسارية المتآكلة.
إسرائيل يومذاك ما كانت متضايقة من «الإسلام السياسي» المناقض للعروبيين واليساريين. بل إن الولايات المتحدة نفسها كانت متحمّسة لدعم «الإسلام السياسي»، وبشقه الجهادي تحديدا، في حرب أفغانستان. بكلام آخر كان نشوء حماس وتمدّدها عاملا إيجابيا جدا في أذهان المخططين الإسرائيليين والأميركيين المستعجلين على حسم «الحرب الباردة» لمصلحة الغرب.. لأن خصمها المباشر كان أيضا الخصم المباشر لإسرائيل والغرب.
ولكن انهيار الاتحاد السوفياتي، ومعه حلف وارسو، جاء عاملا حاسما في تغيّر قواعد اللعبة. إذ انحسر نفوذ اليسار في العالم الإسلامي والعالم العربي، وواصلت الهوية العربية – كهوية قومية – انهيارها أمام تنامي قوة «الإسلام السياسي» الذي صدّق لبعض الوقت أنه كان مدعوما من الغرب إعجابا بمزاياه. ولم تأت اليقظة إلا بعد اكتشاف «جهاديي» أفغانستان أنهم كانوا أدوات استعملت لإنهاك الشيوعية السوفياتية، وما إن انتهى دورهم باتت إعادتهم إلى القمقم الهدف الاستراتيجي للغرب.
رد فعل «الجهاديين» جاء عبر العمليات الانتحارية التي شنّت في غير موضع من العالم وصولا إلى نيويورك وواشنطن يوم 11 سبتمبر (أيلول) 2001. ومنذ ذلك الحين اكتسبت اللعبة أبعادا أكبر إقليميا على مستويي العالمين الإسلامي والعربي… ودوليا في مختلف قارات الأرض.
في الشرق الأوسط، وجدت إسرائيل نفسها في قلب العاصفة. وبعدما واجهت – مع حلفائها الغربيين – لبعض الوقت تهديد الثورة الخمينية في إيران، وكانت ترى نفسها جزءا من الصراع الأميركي – الإيراني أخذت تعيد النظر في استراتيجيتها الإقليمية. وهي اليوم، مع احتفاظها بالهدف الاستراتيجي لليمين الإسرائيلي المتجسّد برفض مبدأ «الأرض مقابل السلام»، تشجّع حربا أهلية إسلامية – إسلامية بين السنة والشيعة في المنطقة. وهذا ما يفسّره دعمها – ودعم الغرب – المستتر لبقاء بشار الأسد في الحكم بسوريا ولو بسلاح إيران، بعدما كانت الداعم الأول لإطاحة صدام حسين في العراق.
أما القيادة الإيرانية التي تتحلّى ببراغماتية تحسد عليها، فكانت قد اكتشفت منذ وقت ليس بالقصير وجود تقاطع مصالح مهم بينها وبين إسرائيل. وكانت فضيحة «إيران كونترا» مؤشرا مبكّرا لبراغماتية طهران القائمة على فكرة «عدوّ عدوّي.. صديقي». واليوم، يتجلّى تقاطع المصالح الإسرائيلية – الإيرانية في الحرب على «الإرهابيين» (وفق تل أبيب) و«التكفيريين» (وفق طهران).
الثمن الذي تطلبه إسرائيل بكل بساطة هو نسف أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، وهذا الهدف لن يتحقق إلا عبر إضعاف سلطة معتدلة هي أصلا ضعيفة، وتقوية صدقية حركة «إسلام سياسي» مسلحة هي أصلا مرفوضة. وأما على المستوى الإقليمي، ولو مرحليا، فتكليف إيران – عبر توابعها في لبنان وسوريا وعمقهم العراقي – بضمان أمن حدودها.
وفي المقابل، ما تريده إيران هو الهيمنة على المشرق العربي من الخليج إلى البحر المتوسط، وادعاء قيادة العالم الإسلامي عبر رفع شعارات «وحدة المسلمين»، وهذا مطلب لا تمانع فيه إسرائيل لأنه في حال ضمن لها أمن حدودها ستربح، وإذا فشل وأدى إلى حرب أهلية إسلامية – إسلامية ستربح أكثر.
مأساة غزة لا تفهم إلا من هذه الزاوية.
المصدر: الشرق الأوسط
http://classic.aawsat.com/leader.asp?section=3&issueno=13014&article=779524