أكد الدكتور أنور بن محمد قرقاش، المستشار الدبلوماسي لصاحب السمو رئيس الدولة، أن الأمل أصبح ممكناً للمرة الأولى، لكنه مشروط بقدرة المنطقة على إدراك التحولات الجيوسياسية العميقة التي تعيد تشكيل العالم وتحويلها إلى تقدم ملموس على أرض الواقع، مشيراً إلى أنه لا يوجد طريق عسكري نحو الاستقرار، وأن الحلول السياسية وحدها قادرة على تحقيق السلام الدائم في المنطقة من غزة إلى السودان وليبيا واليمن وبلاد الشام.
حل الأزمات الإقليمية
وقال خلال مُلتقى أبوظبي الاستراتيجي الثاني عشر التي نظمه مركز الإمارات للسياسات: إن دولة الإمارات لعبت دوراً محورياً في تشكيل الاستجابة الدولية من خلال «خطة السلام في غزة» و«مبادرة الرباعية»، مؤكداً أن الدولة ستواصل الإسهام في حل الأزمات الإقليمية عبر الدبلوماسية والعمل الإنساني، موضحاً أن توافق الشركاء العرب والدوليين خلف القيادة الأمريكية لخطة السلام في غزة يمثل فرصة تاريخية ستبدأ بمعالجة المظالم التي استغلها المتطرفون لعقود.
وأشار إلى أن مبادرة الرباعية في السودان تشكل إطاراً قوياً لإنهاء الصراع المدمر وتمهيد الطريق لوقف إطلاق نار دائم، وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق، والانتقال إلى حكومة مدنية مستقلة، مضيفاً أن الجهود الإماراتية مع الشركاء الإقليميين والدوليين تجسد ما يمكن تحقيقه عندما تتوحد القوى المعتدلة في السعي نحو السلام والاستقرار.
سياسات متوازنة ومستقلة
وأوضح قرقاش أن المنطقة اليوم تعيش مرحلة ديناميكية تشهد التقاء الشرق بالغرب، وتمثل مركزاً للتجارة العالمية ومحركاً للابتكار، حيث تتراجع الجغرافيا السياسية التقليدية أمام تصاعد تأثير التجارة والتكنولوجيا والترابط. وأضاف أن في صميم نهج الإمارات ثلاثة محركات مترابطة تحدد سياستها الخارجية والداخلية، أولها الاستقلال الاستراتيجي الذي يضمن أن تعكس القرارات الوطنية مصالح الدولة وأولوياتها ضمن عالم معقد ومتعدد الأقطاب.
وبيّن أن هذا النهج يمكّن دولة الإمارات من انتهاج سياسات متوازنة ومستقلة تحافظ على السيادة الوطنية وتبني شراكات بنّاءة في مختلف المناطق، أما المحرك الثاني فيتمثل في الرؤية الاقتصادية التي ترتكز على بناء اقتصاد عالمي تنافسي ومتنوع ومستدام يعزز المرونة ويوفر الفرص للأجيال القادمة ويكرس مكانة الدولة كمركز رائد للتجارة والاستثمار والابتكار.
وأضاف أن المحرك الثالث يتمثل في التوجه التكنولوجي الطموح القائم على الابتكار والاستثمار والشراكات الدولية، الذي يضع دولة الإمارات في طليعة اقتصاد المستقبل من خلال دمج الذكاء الاصطناعي والصناعة المتقدمة والتحول الرقمي في الاستراتيجية الوطنية، مؤكداً أن الدولة لا تكتفي بالاستعداد للمستقبل، بل تشارك في صياغته.
مستقبل مزدهر
وقال إن هذه الركائز الثلاث – الاستقلال الاستراتيجي والتنافسية الاقتصادية والطموح التكنولوجي – تشكل الأساس لسياسة إماراتية واثقة بهويتها، عالمية في رؤيتها، وثابتة في سعيها نحو الاستقرار والتقدم، لافتاً إلى أن الرؤية الاستراتيجية للدولة ترتكز على التزام طويل الأمد ببناء مستقبل آمن ومزدهر للأجيال القادمة من خلال الاستثمار في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والطاقة المستدامة ورأس المال البشري.
وأشار إلى أن دولة الإمارات تواصل قيادة الجهود المناخية العملية عبر التكنولوجيا والتعاون الدولي لا عبر الشعارات، موضحاً أن الدولة تمثل جسراً للسلام والاستقرار والازدهار في الشرق الأوسط والعالم، وبصفتها مناصرة للتجارة الحرة والمنفتحة، فإنها تظل ملتزمة بنظام دولي قائم على القواعد وبمؤسسات متعددة الأطراف قوية ونمو اقتصادي مستدام.
الترابط الاقتصادي العالمي
وأوضح قرقاش أن دولة الإمارات تشارك بفاعلية في منصات دولية مثل مجموعة العشرين و«بريكس» لتعزيز الترابط الاقتصادي العالمي، وأن الشراكات الاقتصادية تشكل ركائز للاستقرار، مؤكداً أن اتفاقيات الشراكة الاقتصادية الشاملة (CEPA) تعكس هذا الالتزام.
وقال إن الاتفاقيات الـ31 التي أبرمتها دولة الإمارات حتى الآن تمثل جوهر طموحها في مضاعفة حجم الاقتصاد بحلول 2030 وتسريع التنويع وضمان أن تسهم القطاعات غير النفطية بأكثر من 75% من الناتج المحلي الإجمالي، لافتاً إلى أن النمو وحده لا يكفي، فالمستقبل سيكون لمن يجرؤ على الابتكار.
وأضاف أن «حرم الإمارات والولايات المتحدة للذكاء الاصطناعي» في أبوظبي يُعد أحد أكبر مراكز البيانات الخاصة بالذكاء الاصطناعي في العالم، ويشكل ركيزة أساسية للتكنولوجيا المستقبلية، مشيراً إلى أن الشراكات التي أبرمتها الدولة مع فرنسا وإيطاليا في مجال البنية التحتية للذكاء الاصطناعي تؤكد التزامها ببناء منظومة ابتكار عالمية.
وأكد قرقاش أن الإمارات تُعد من أكبر المستثمرين في إفريقيا، حيث تدعم الترابط والابتكار وتنمية المهارات لما فيه الفائدة المشتركة، موضحاً أن الدولة ظلت ملتزمة بالدبلوماسية منذ اندلاع الصراع الروسي الأوكراني، ودعت باستمرار إلى الحوار وخفض التصعيد، وساهمت في تسهيل تبادل أكثر من 4600 أسير بين الجانبين.
نحو سلام دائم
وقال إن المنطقة تقف عند نقطة تحول حاسمة بعد عقود من الصراع واليأس، مشدداً على أن السياسات المتطرفة والمطالب القصوى وصفة لعنف لا نهاية له، مؤكداً أن الإمارات وقفت بثبات إلى جانب الشعب الفلسطيني، وقدمت المساعدات الإنسانية ودافعت عن مسار سياسي نحو سلام دائم.
وأضاف أن «خطة السلام في غزة»، رغم عدم كمالها، نجحت في تحقيق وقف إطلاق النار وتأمين إطلاق سراح رهائن إسرائيليين وأسرى فلسطينيين، داعياً إلى العمل من أجل حل الدولتين وضمان العدالة والسلام للفلسطينيين ودولتهم المستقلة بجانب إسرائيل آمنة.
وأوضح أن الاتفاق في غزة يجب أن يكون بداية لا نهاية، وأن دولة الإمارات لن تشارك في أي قوة استقرار ما لم تتضح معالمها، لكنها ستواصل دعم كل الجهود السياسية والإنسانية لتحقيق السلام، مشيراً إلى أن الإمارات قدمت أكثر من 2.57 مليار دولار سنوياً، أي ما يعادل 45% من إجمالي المساعدات الإنسانية إلى غزة براً وجواً وبحراً.
وقال قرقاش إن السودان لا يزال يشكل أزمة إنسانية وسياسية عاجلة، وإن الإمارات تدعم انتقالاً شاملاً بقيادة مدنية مستقلة عن الأطراف المتحاربة، من خلال «مبادرة الرباعية» بالشراكة مع الولايات المتحدة والسعودية ومصر، مؤكداً أن التزام الإمارات تجاه الشعب السوداني سيبقى ثابتاً رغم حملات التضليل ومحاولات التشويه.
توسيع نطاق المساعدات الإنسانية
وأشار إلى أن أولويات دولة الإمارات واضحة وتشمل وقف إطلاق النار الفوري، وتوسيع نطاق المساعدات الإنسانية، وفتح أفق سياسي قابل للتطبيق لأزمات المنطقة، مؤكداً أن الدولة تواصل إعطاء الأولوية للدبلوماسية والوساطة والحوار ورفض الحلول العسكرية للأزمات السياسية.
وأضاف أن نهج الإمارات يرتكز على ثلاثة محاور استراتيجية: الموازنة بين الأولويات الإنسانية والاستقرار السياسي، وتحقيق الأمن الإقليمي عبر الحوار ورفض الميليشيات، والنظر إلى المنطقة من منظور الاعتدال مقابل التطرف، مؤكداً أن أمن الخليج غير قابل للتجزئة، وأن حمايته مسؤولية جماعية أساسية للاستقرار الإقليمي.
وأكد قرقاش أن القيادة الأمريكية تظل ضرورية لمعالجة أزمات المنطقة، في حين تعكس شراكات الإمارات المتنوعة التزامها بالتعاون المتوازن والبنّاء مع الجميع، مشدداً على أن الخيارات التي تُتخذ اليوم ستحدد مستقبل السلام في المنطقة وما إذا كان سيبقى مصدر أزمة أو يتحول إلى حجر أساس للاستقرار والنمو والتقدم الإنساني.
وقال في ختام كلمته: «رؤيتنا ثابتة، شرق أوسط مستقر ومزدهر يساهم في السلام العالمي، وهي رؤية تستلهم قيادة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، قيادة متجذّرة في الواقعية والإنسانية والالتزام بالسلام. لقد حان الوقت لطي صفحة التشاؤم والانقسام، ولنختر العزم والشراكة بدلاً من الخلاف، فالمستقبل سيكون لمن يملك الإرادة لتحقيقه».
المصدر: الخليج




