خاص لـ هات بوست:
في ظل ظروف صعبة يمر بها العالم، من كوارث طبيعية وحروب وأوبئة ومجاعات، كثيراً ما يتردد سؤال عويص، يجاهر به البعض ويكتمه بعض آخر، لكنه لا يلبث أن يعود إلى الواجهة عند كل مصيبة، فردية أم جماعية، يختصر ب “أين الله مما يحدث”؟
تنطلق إجابات شتى، غالباً تنقسم في مجتمعاتنا إلى شقين، وفق هوية المصاب، سواء فرد أم بلد أم مجتمع، فإما أن تكون المصائب ابتلاء من رب العالمين يختبر من خلاله صبرنا وإيماننا، أو أنها عقوبة استحقها من وقعت عليه.
وإذ يصبح الإيمان بالقضاء والقدر حسب الفهم الذي ترسخ في أذهاننا، مريحاً نوعاً ما، حيث يسلم الإنسان ويقتنع أن تلك إرادة الله، فيقبل ويستكين، ويدفن الأسئلة داخله، خوفاً من أي شبهة بالكفر أو الشك، لا تلبث أن تعاود التساؤلات الطفو على السطح عند أهوال أخرى نشهدها.
ورغم أننا لا ندرك تماماً آلية عمل العدالة الإلهية، فنقيسها بمقاييسنا الدنيوية المحدودة، ونقارن الله بنا كمخلوقاته، لكننا في التنزيل الحكيم نجد أنه وعدنا بالعدالة في الآخرة {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (الكهف 49)، ومن هنا يأتي الإيمان بالآخرة ليكون بلسماً يداوي جروحنا، أما الحياة الدنيا فهو جل جلاله لم يتعهد بأن تكون سلسة، ففيها خوف وجوع ونقص في الأموال {لَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (البقرة 155)، تدور على كل الناس وفق قوانين أساسية وضعها الله عز وجل لعالمنا هذا، من تعاقب الليل والنهار والظواهر الطبيعية والمناخية والجاذبية الأرضية والزلازل والبراكين، إضافة لطبيعة الكائنات الحية وما يحصل فيها من أمراض، وتفاعلها مع بعضها ومع المحيط، كل هذه أقدار لا يمكننا تغييرها كقوانين موجودة، لكن بإمكاننا تطويعها بالمعرفة، فمعرفتنا بحركة الرياح تجعلنا ننظم حركة السفن، ومعرفتنا بالزلازل تجعلنا نصمم الأبنية المقاومة لها، ومعرفتنا بالجاذبية الأرضية تجعلنا نتجنب السقوط من علٍ، وهذه القوانين جميعها لا تجامل، ففي السقوط من بناء عالي سيموت العجوز والطفل الصغير، وقانون الجاذبية لن يأخذ بالاعتبار طفولة الصغير ولا قلب أمه، ونتيجة الزلزال قد يقضي الصالح والطالح والكبير والصغير، وقد يتدخل اللطف الإلهي لينقذ أحد ما دون أن ندري ما هي القاعدة، إنما نحن كخلفاء في الأرض مهمتنا تسخير ما في الكون لنتمكن من العيش بأفضل الظروف، وذلك “القضاء” يتحقق بالمعرفة، فمن خلال العلم استطاع الطب تطويل الأعمار، والقضاء على كثير من الأمراض باللقاحات، مع أنه لن يقضي على الموت لأن الموت قدر، قانون من قوانين الوجود {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (الرحمن 26)، والموت كتاب مؤجل {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا} (آل عمران 145) لا بد حاصل لكن حين يأتي الأجل وتتحقق الأسباب.
وثمة أمر بالغ الأهمية هنا حول “المكتوب”، فقد رسخ في أذهاننا بناء على قوله تعالى {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} (التوبة 51)، وبالتالي من سرق ودخل السجن فإن الله قد كتب له منذ الأزل ذلك، لكن هذا الاعتقاد خاطىء، إذ لا معنى لحسابنا في الآخرة إذاً، إنما ما كتبه الله هو قوانين الوجود، فلن يصيبنا أمر من خارجها، أي مرض سيكون من ضمن الأمراض الموجودة في هذا الكون، وظاهرة طبيعية من ضمن الظواهر الموجودة، أما السرقة فهي اختيار لمن قام بها، والله أعطاه عقل ليستخدمه وجملة قيم أخلاقية ليسير ضمنها، ومن هنا نفهم قوله تعالى {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى 30).
والله لم يكتب أن تشتعل حرب هنا وحرب هناك، ويموت الأطفال ويتشرد الناس، فالحروب من صنع أيدينا، لا كأفراد، وإنما كدول، والنصر فيها لمن أعد العدة، وهي في يومنا هذا ليست سيوف وخيل، وإنما أسلحة متطورة وتكنولوجيا وسياسة واقتصاد، ومن ثم قد يؤيد الله صاحب الحق أو لا يتدخل، وهذا لا يعني أن المنتصر هو صاحب الحق، ولا يعني أن الله غاضب على من خسر المعركة، لكن زمن المعجزات انتهى، والله تعالى لا يتدخل إلا إذا تهيأت الظروف الموضوعية، فلن يرسل طيراً أبابيل حتى لو دعوناه لمئة عام قادمة، لكنه سينصرنا إن تفوقنا بالمعدات كافة.
علينا إعادة النظر في فهمنا للقضاء والقدر، كي نعرف ما مهمتنا في هذه الحياة الدنيا، ومدى مسؤوليتنا عن السير بها نحو الأفضل، ومن ثم العمل على القضاء في الموجودات، أما إن بقينا على ما نحن عليه مكتفين بالدعاء، فسنبقى أيضاً نحصد الخيبات.
شخصياً، في الختام علي الاعتراف بفضل أستاذي الراحل محمد شحرور في تغيير نظرتي لمفهوم القضاء والقدر، ومن ثم تقبل أمور عديدة على اعتبار ألا ثأر خاص لله معي.