زياد الدريس
زياد الدريس
كاتب سعودي؛ كان سفيراً لبلاده في منظمة اليونسكو

قطار المشاعر «الباريسية»

آراء

تُعدّ باريس إحدى أجمل مدن العالم.

عشّاق باريس لا يكتفون بهذا الغزل المتحفظ، فهم يجاهرون بعشقهم المتناهي لباريس بالقول: إنها أجمل مدن العالم.

ما هو معيار الجمال عند تصنيف المدن؟

هل هو الإطار المعماري أم نوعية الطقس أم تعامل الناس أم توافر الخدمات، أم هو كل ذلك؟!

ستكون الإجابة الأسهل حتماََ هي الأخيرة لأنها تقدم حلاً توافقياً للخروج من مأزق التفضيل بين العناصر الأربعة الرئيسة، وباريس بالذات مؤهلة وجديرة بهذا الحل التوافقي.

لن أتحدث عن الإطار المعماري الفاخر لباريس الذي يجمع بين الكلاسيكية والحداثة في تناسق مذهل، ولا عن نوعية الطقس الذي إذا أمطر بلّل الرؤوس وإذا أشمس أنعش النفوس، ولا عن تعامل الفرنسيين المثير للجدل بين أنفة الارستقراطية وشوائب العنصرية.

سأتحدث عن توافر الخدمات، التي يمكن لأي مدينة في العالم أن تستجلبها، فهي ليست معماراً تاريخياً وثقافياً تراكمياً لا يمكن تخليقه، كما أنها ليست طقساً ربانياً ليس للبشر يدٌ فيه، أما طبائع الفرنسيين فميزة غير متفق عليها لحسن الحظ!

في مدينة باريس يوجد: مطاران دوليان و 6 محطات قطار داخلي ودولي و300 محطة مترو و 1000 باص و 15 ألف سيارة تاكسي.

وفي صباح أحد أيام عام 2007 استيقظنا فوجدنا، هكذا من دون سابق إعلان وإعلام، وسيلة نقل جديدة لأهالي باريس هي الدراجات الهوائية العمومية، بدأت بمحطات معدودة حتى وصلت اليوم إلى 1451 محطة فيها 20 ألف دراجة يتناوب عليها الناس في مشاويرهم اليومية.

ثم استيقظنا في يوم آخر من عام 2011، من دون سابق إعلان أو ملاحق إعلامية (!)، فوجدنا 3000 سيارة إلكترونية عمومية يتم تشغيلها وإعادة شحنها من محطات مخصصة لذلك، يزداد انتشارها يوماً بعد آخر، لخدمة 12 مليون ساكن في باريس وضواحيها.

يجدر التنويه أن باريس ليست مدينة أفلاطونية تخلو من الكوارث الطبيعية أو الأزمات المالية أو الحروب، فهي بعد أن تعافت من حرب المئة عام مع مملكة بريطانيا عام 1453 ثم من أعراض الثورة الفرنسية عام 1789 سقطت في أتون الحرب العالمية الأولى عام 1918، ثم لم تكد تتعافى حتى جاءها من يريد أن يهدمها ويقلبها رأساً على عقب في أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم أربكتها الثورة الطالبية عام 1968. لكنها في كل مرة كانت تتعافى من جديد لتبني من جديد وسيلة رفاهية جديدة لأهلها الذين ضحوا من أجلها حين مرضت!

إذاً فمدينة باريس تمر بمصائب كما تمر بها المدن الأُخرى، لكنها تسرع في التعافي منها فيما المدن الأخرى تطيل الأنين والتأوه من آلام المصيبة حتى يحين موعد المصيبة الأخرى!

كما أن سكان باريس ليسوا كلهم متحضرين ففيهم الهمج وقليلو التعليم، كما أنهم ليسوا كلهم أصليين ففيهم المهاجرون والمتسللون والزائرون.

الفارق بين باريس وبعض المدن العربية الأُخرى، أن باريس تصنع الإنجاز أولاً ثم تُعلن عنه في الإعلام إذا دعت الحاجة، الآخرون يعلنون عن الإنجاز في الإعلام أولاً ثم يصنعونه إذا دعت الحاجة (!) .. وقد لا يصنعونه بسبب عين «الحسود» الذي قرأ الخبر «الوردي» المذهل في وسائل الإعلام فأصابهم بعينه الحارّة!

قال صلى الله عليه وسلم: «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان»، لكنه لم يقل استعينوا على «تعطّل» حوائجكم بالكتمان!

 المصدر: جريدة الحياة