المدير العام لقناتي «العربية» و«الحدث»
في محاضرة بجامعة في واشنطن، قدم الأستاذ تفسيرات متعددة لموجة التطرف والإرهاب الصاعدة في العالم. ردد حزمة منها، مثل: ردة فعل على الحداثة ونمط الحياة الغربية التي تهجم على الثقافات المحافظة. تفسير آخر يتحدث عن حالة التهميش التي تعيشها جيوب في الأطراف يعيش فيها ملايين الشباب، فيلجأون إلى ثقافات متطرفة للخروج من الإحباط النفسي.
وأخيراً التفسير الكلاسيكي الذي يرى أن صعود موجة التطرف كان تحدياً للإمبريالية الغربية والأميركية تحديداً.
كل هذه التفسيرات المرتعشة هي أكثر ما يتمناه المتطرفون؛ لأنها تساعدهم وتقدم لهم خدمة مجانية في عمليات التجييش وإثارة المشاعر والتهيئة النفسية لملايين الشباب المسلمين، من خلال التأكيد على أنهم معزولون ومغتربون في عالم لا ينتمي لهم، ويتعرضون لحرب صليبية شعواء تستهدف دينهم وثقافتهم. تبريرات جاهزة قام حتى زعيم «القاعدة» أسامة بن لادن بالاقتباس منها، من أجل إضفاء شرعية علمية أكاديمية على أفعال تنظيمه الإجرامية.
وتتجاهل هذه التبريرات الخطيرة التفسير الوحيد والحقيقي، وهو أن الإشكالية تكمن في ثقافة التطرف والكراهية التي تنتج شخصيات مريضة، مثل قاطع الرؤوس «الجهادي جونز» وأشباهه. والواقع أن الإرهابيين لابسي الأحزمة، وليس منظروهم، أكثر صراحة ووضوحاً في التنظير لأفعالهم، فهم يُفصحون قبل أن يقدموا على عملياتهم الانتحارية عن السبب الحقيقي لتصرفاتهم، وهو القضاء على الكفار والضالين وتطهير العالم من دنسهم. أي أن محركهم الرئيسي الفكر المتطرف الذي يؤمنون به، وليس زحف الحداثة والغطرسة الإمبريالية، كما يدعون في الجامعات الغربية.
والإشارة إلى أن التطرف هو السبب الحقيقي خلف الإرهاب وثقافة العنف لا تعني حل المشكلة، ولكنها مجرد الخطوة الأولى لحل الإشكالية المعقدة التي يلعب فيها التاريخ دوراً أساسياً. للمسلمين ككل الأمم تاريخان مختلفان؛ أحدهما ناصع مؤلَّف من الفكر المستنير والمتسامح، ومراحل مضيئة من التعايش والاستقرار، وشخصيات عظيمة بكل معنى الكلمة من قادة ومفكرين وأطباء وفقهاء وشعراء، وتاريخ آخر مظلم، شكَّله دعاة متطرفون وقادة وصوليون ومؤرخون مؤدلجون، ومراحل طُمست فيها أي من مظاهر العلم والإبداع. وللأسف التاريخ الثاني تغلب على التاريخ الأول، وشكَّل الثقافة التي امتدت للوقت الحاضر؛ حيث نشأت الأجيال الجديدة بذاكرة تاريخية معدلة، لا تذكر إلا الجانب المظلم من ماضيها.
ولا يثير الأمر أي غرابة، أن المتطرفين الذين يسوقون ويحتفلون بالتفسيرات الغربية لظاهرة التطرف، يشنون على الدوام حرباً بلا هوادة على التاريخ الإسلامي والعربي الذهبي، ويتهمون شخصيات عظيمة بالزندقة والانحراف، في آلية معروفة لاغتيال الشخصية حتى لا تؤثر بأفكارها على الحاضر. وهم منطقيون في مسعاهم؛ لأن استرجاع التاريخ المستنير وإخراج الرموز الملهمة من الوحل وتنظيف صورتها، سيكون أكبر خطر على تعاليمهم وأفكارهم. للمسلمين تاريخ مجيد من التسامح والاستنارة، وكل ما يجب فعله هو ربط ذاكرتهم الحية به، وهذا ما سيجعلهم يندمجون في العالم الحديث، من دون إحساس بعُقد الذنب أو خيانة دينهم أو تاريخهم.
مناسبة هذا الحديث هي الخطوات الأخيرة التي أعلنت عنها فرنسا لمحاربة الجمعيات والمراكز المتطرفة، وهي خطوة صحيحة، وأثبتت كل المعالجات السابقة التي اعتمدت على التفسيرات نفسها من التهميش إلى الخوف من الحداثة، تعقيد المشكلة بدل حلحلتها. وبعد أن كنا ننتظر شخصيات إسلامية متأثرة بالفضاء الأوروبي تساعدنا في تقديم إضافات علمية وفكرية تسهم في معالجة أزمة الإرهاب، أصبحنا نرى دعاة وجمعيات وساسة في أكبر العواصم الغربية لا تعزز ثقافة الكراهية فحسب؛ بل تحرض أيضاً على الإصلاحات الاجتماعية والفكرية الشجاعة التي تقودها السعودية وعدد آخر من البلاد العربية.
هذه التفسيرات المتكررة التي ألقيت في المحاضرة مجرد خدع بصرية، والحل يكمن في التخلص من ثقافة التطرف ودعاتها، ومحاصرة القوى السياسية التي تمدها بالمال من أجل تحقيق أجنداتها المريضة.
في زيارة للسويد مع مجموعة مع الصحافيين، تحدث إمام مسجد مطولاً عن التعايش والترحيب الذي يلقاه المسلمون في هذه البلاد المضيافة، ولكنه قام في النهاية بسكب قطرة صغيرة من السم في كأس الماء، عندما قال: «ومع هذا سنبقى مختلفين وخصوماً للأبد». ربما الخطوة الأهم من كل شيء مستقبلاً هي منع أي قطرات سم من التغلغل إلى عقول المسلمين الصغار.
المصدر: الشرق الأوسط