خبير، قطاع الرقابة على الأداء الحكومي ومدرب في ديوان المراقبة العامة والأمانة العامة لدول الخليج والمجموعة العربية لأجهزة الرقابة العليا (آربوساي). - مدرب مشارك في الهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين وعضو في لجنة تطوير النظام المحاسبي في المملكة ، لدي العديد من البحوث والدراسات المنشورة في مجال المحاسبة والرقابة.
انفردت “الوطن” بنشر خبر عن قيام الجهات المختصة بالتحقيق مع سبع قيادات إدارية في وزارة الصحة بسبب هدر 200 مليون ريال تتمثل في بدلات غير نظامية، وتهم أخرى تتعلق بالتنفع والتربح من الوظيفة العامة.
وتتمثل وقائع القضية، حسب ما جاء في الخبر، في “أن الوزارة تعتمد سنويا صرف مبلغ 3 مليارات ريال بدلات لموظفيها تحت بنود الإشراف والتميز، وأن المتهمين بتبديد المال العام استغلوا هذه البدلات بغير وجه حق، واحتالوا على الأنظمة عبر صرف مبالغ طائلة.. يتقاضاها قياديون ببعض مديريات الشؤون الصحية تحت مسمى “بدل جبلي” و”بدل نائي”، في الوقت الذي استمروا فيه بالجلوس على مواقع عملهم داخل المدن”.
هذا بالإضافة إلى استقدام أطباء أجانب دون أن يمارسوا عملهم الفعلي، واستيراد أجهزة طبية تكلف عشرات الملايين من الريالات دون استخدامها وتخزينها في المستودعات، كما توجد برامج ومشاريع طبية لم تحقق أهدافها المطلوبة، و”مخالفة أنظمة التعيين والتوظيف في بعض البرامج، إضافة إلى إقامة مؤتمرات وندوات مقابل مبالغ طائلة، والصرف عليها من بنود أخرى بالموازنة”.
المخالفات والتهم السابقة تمثل حالة الفوضى الإدارية التي تعاني منها بعض الجهات الحكومية عموما وليست وزارة الصحة وحدها، ولكن الجيد في هذا الموضوع هو قيام الجهات المختصة بالتحقيق في هذه المخالفات ومحاسبة المسؤولين عنها، وبما أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، فإن نتائج التحقيق هي التي سوف تكشف الحقيقة.
وما يهمنا في هذا الموضوع تلك المخالفات السابقة، والتي تعتبر شائعة في العديد من الجهات الحكومية، فالمشكلة لدينا أن بعض القيادات الإدارية تحكمها الفردية لا المؤسساتية، فالعمل لا يقوم على أسس تنظيمية وإجراءات ومعايير واضحة، ولا بطريقة منهجية متكاملة، بل بجزئية هلامية هشة ومبتورة، وسيطرة القلة على الجهة، فأصبحت بعض الجهات الحكومية مراكز للنفعية والسيطرة ومستعدة للصراع والقتال من أجل مصالحها الشخصية.
فالإدارة بشكل عام غير مؤهلة ولا تؤمن بأهداف التنمية، وتظل الموارد المالية والبشرية إما مبعثرة أو مهدرة في غير موقعها التنموي أو تستثمر في اتجاهات خاطئة كالفساد، وفيما يلي أستعرض بعض مخالفات القياديين في مديريات الشؤون الصحية لتوضيح الخلل التنظيمي والسلوك الاجتماعي للقيادات الإدارية كمثال على حال الإدارة في بعض الجهات الحكومية، وذلك على النحو التالي:
أولا: من ضمن المخالفات أو التهم: استغلال البدلات الصحية وصرفها لغير مستحقيها، والسؤال المطروح هنا: هل البدلات تصرف لمسمى الوظيفة أم ممارسة العمل الفعلي أم الاثنين معا؟ وهل هناك لوائح تنظيمية أو معايير معلنة تنظم عملية صرف هذه البدلات؟ ومن صاحب الصلاحية في اعتمادها؟ وأخيرا هل هناك مراجعة مستقلة لعمليات الصرف سواء من وزارة الصحة أو خارجها؟
فإذا لم توجد تلك اللوائح أو المعايير، وتحديد الصلاحيات والمراجعة المستقلة فإنه من المتوقع أن يتم صرف البدلات لغير مستحقيها، بل وحرمان مستحقيها منها وربما تحولت هذه البدلات إلى “شرهات” توزع من هنا وهناك على أساس الواسطة والمحسوبية.
ثانيا: من ضمن التهم أيضا، استقدام أطباء أجانب دون أن يمارسوا عملهم الفعلي، وهذه التهمة تدخلنا في موضوع عقود العمل في المنشآت الصحية، وكيفية الرقابة عليها، وكيفية اختيار الكوادر الطبية المؤهلة من الخارج، ففي الواقع العملي يتم تشكيل لجان للتعاقد يتم انتدابها خارج المملكة، أعمال هذه اللجان يكتنفها الغموض والاختيار ربما يكون بمعايير شخصية، ولا يتم تدقيق الشهادات والمؤهلات بالشكل المطلوب، كما توجد مخاطر الاحتيال تتمثل في التلاعب بالتصنيف الطبي للعقود ومن ذلك على سبيل المثال التعاقد مع ممرضات عاديات على عقود ممرضات للعناية المركزة وذلك لكسب فرق التكاليف.
وبالتالي فإن مثل هذه الكوادر الطبية غير المؤهلة قد تفرض على المستشفيات، ويتم السكوت عنها خوفا من التصادم مع المسؤول وبالتالي الدخول في دوامة الصراع والانتقام والتنكيل، لذا يتم توزيع هؤلاء الأطباء أو الممرضات إلى وظائف أو تخصصات أو أقسام أخرى.
ثالثا: بخصوص تهمة استيراد أجهزة طبية تكلف عشرات الملايين من الريالات دون استخدامها وتخزينها في المستودعات، وهذا ربما كان ناتجا عن سوء التخطيط للاحتياجات الطبية للمستشفيات والمراكز الصحية، أو ربما عدم جاهزية البنى التحتية لاستيعاب هذه الأجهزة، أو ربما وجود نقص في الكادر التشغيلي لها لم يتم توفيره، وجميع الاحتمالات هنا مطروحة، ولكن يبقى الخطر الأكبر هو فرض هذه الأجهزة للتربح من عقود توريدها.
رابعا: فيما يتعلق بصرف أموال طائلة على عقد المؤتمرات والندوات والصرف عليها من بنود أخرى في الموازنة، هذا الأمر يدخل ضمن المصروفات النثرية أو ما تسمى في المحاسبة الحكومية العهدة والسلف، ومثل هذه المصروفات في الغالب ليس لها سقف محدد والرقابة عليها ضعيفة جدا، إذ ينصب الاهتمام على المجاميع ووجود مستندات شكلية لا يتم تدقيقها ومراجعتها.
ومما سبق، يتضح وجود خلل إداري ليس في المديريات الصحية وحسب، بل قد نجدها في العديد من الجهات الحكومية من خلال استئثار فئة معينة بموارد الجهة بسبب وجود هذا الخلل واستغلاله.
كما أود أن أضيف أن هناك إشكالية تعاني منها الإدارات العامة في المملكة وهي استقلالية وإدارة فروع الوزارات والمصالح الحكومية في مناطق المملكة المختلفة، منها مديريات الشؤون الصحية في المناطق، فقد ظهرت مؤشرات على وجود حالات فساد في بعض هذه المديريات نتيجة لإعطائها صلاحيات واستقلالية أكثر في ظل ضعف الشفافية والمساءلة وضعف الإشراف عليها من قبل المراكز الرئيسية، مع بقاء الإدارة حبيسة واقعها المتوارث وغير المؤهل للتعامل مع التطورات والمستجدات الملحة، ومع نمو مراكز القوى التي أصبحت تتحكم بالتوجهات والقرارات الإدارية، مع أنها قيادات ضعيفة مهنيا!
المصدر: الوطن أون لاين
http://alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleID=26466