كاتب سعودي
أنتقل بعد الحديث عن قياس كفاءة أداء قطاع التعليم، إلى الكشف عن نتائج أداء القطاع الصحّي، الذي يحتل درجة الأهمية نفسها في سلّم الأولويات الإنمائية المرتبطة بالإنسان في أيّ مجتمع.
يقفُ واقع القطاع الصحّي في البلاد ــــ وفقاً لأبرز الإحصاءات والمؤشرات المتوافرة 2011 ــــ على النحو الآتي: بلغ إجمالي عدد المستشفيات 420 مستشفى ”251 مستشفى لوزارة الصحة”، يتوافر فيها 58.7 ألف سرير ”34.5 ألف سرير لوزارة الصحة”، يعمل فيها أكثر من 69.2 ألف طبيب ”34 ألف طبيب تابع لوزارة الصحة”، وأكثر من 134.6 ألف ممرض وممرضة ”نحو 78 ألفا تابعين لوزارة الصحة”، وأكثر من 78.8 ألف من الفئات الطبيّة المساعدة ”أكثر من 45.3 ألف تابع لوزارة الصحة”. وصل إجمالي الإنفاق على هذا القطاع إلى نحو 94.4 مليار ريال ”65.1 مليار ريال من الحكومة، و29.3 مليار ريال من القطاع الخاص”.
وبالنظر إلى أبرز المؤشرات المقارنة عالمياً للقطاع وفقاً لبيانات البنك الدولي الأخيرة، بلغ نصيب الفرد من الإنفاق على الرعاية الصحية ”بالأسعار الجارية للدولار الأمريكي” نحو 2841 ريالا للفرد (757.7 دولار أمريكي)، محتلاً بهذا المرتبة 54 عالمياً. كما احتلت السعودية بإجمالي إنفاقها الصحي المرتبة 34 عالمياً ”في الإنفاق الحكومي المرتبة 31، والقطاع الخاص المرتبة 37”. ووفقاً لما تقدّم؛ يوجد طبيب واحد و2.2 سرير لكل ألف شخص ”المرتبة 91 عالمياً لكلا المؤشرين”.
واجه القطاع الصحي في السعودية خلال العقد الأخير تنامياً كبيراً في الاحتياجات الصحيّة للمجتمع، ساهم فيه كل من النمو السكاني والزيادة المطردة في أعداد المقيمين، ومع التحسّن الكبير الذي شهدته المالية العامّة للبلاد بسبب الارتفاع الكبير لأسعار النفط، وجدتْ الحكومة المجال متاحاً أمامها لزيادة مخصصات هذا القطاع الحيوي، لمقابلة الزيادة المطردة على الخدمات الصحيّة، وتخصيص ما يقارب العُشر من نفقاتها على هذا القطاع! تمكّنتْ وزارة الصحة بموجبها من تحقيق تقدّمٍ في بعض المواقع، وتأخّرتْ عن تحقيقه في مواقع أكثر كما سأبيّن الآن.
بيّنتُ في مقالٍ سابقٍ نُشر هنا في صحيفة ”الاقتصادية” العدد 7182 بعنوان: المشاريع التنموية.. فاتورة التعثّر أكبر! أنّ وزارة الصحة وفقاً لبيانات الميزانية الحكومية السنوية، جاءتْ مشروعاتها القائمة ”تحت التنفيذ” خلال الفترة 2007 ـــ2011 وفق الآتي: بلغ على مستوى المستشفيات نحو 137 مستشفى، بطاقةٍ سريرية تصل إلى نحو 28470 سريرا. فماذا تحقق من تلك المشروعات المخططة؟!
أظهر تقرير الإحصاءات السنوية الصادر عن مؤسسة النقد العربي السعودي، أنَّ عدد المستشفيات زاد بـ 33 مستشفى فقط ”نسبة إنجاز 24.1 في المائة من العدد المستهدف للزيادة”. وزاد عدد الأسرّة خلال الفترة بـ 3833 سريرا ”نسبة إنجاز 13.5 في المائة من العدد المستهدف للزيادة”، وبإضافة ما استجد من الأجهزة الحكومية الأخرى والقطاع الخاص، تصبح الزيادة في عدد المستشفيات 36 مستشفى فقط، والزيادة في عدد الأسرّة 5232 سريرا فقط للفترة نفسها، وكما يتبيّن أن تلك الزيادات جاءتْ أدنى من الأهداف المعلنة بمسافاتٍ ليستْ بالهيّنة.
تتيح الحقائق التي تضمّنتها الإحصاءات والمؤشرات المشار إليها أعلاه، كعناوين رئيسة حول واقع القطاع الصحيّ لدينا، أؤكد أنّها تمكّننا من تفسير الكثير من صور المعاناة الشديدة التي يكابدها المرضى وذوو الاحتياجات الصحيّة المتعددة تجاه القطاع الصحي لدينا، وليس عجز العديد من المرضى عن الحصول على أسرّة للعلاج وإجراء العمليات الطبيّة اللازمة، أو حتى مواعيد زمنية قريبة للدخول على الأطباء، عدا الأخطاء الطبيّة التي قد تودي بحياة المريض أو تلحق به تشوهاتٍ صحيّة دائمة، وغيرها من ”الفجوات” العديدة في الغلاف الخارجي للقطاع، ومواقع الخلل الكامنة في أحشائه.
ما يجب الإشارة والتأكيد عليه؛ أن تخصيص الحديث هنا عن القطاع الصحي اليوم، وبالأمس عن القطاع التعليمي، وغداً عن قطاعٍ آخر، لا يعني على الإطلاق اختلافاً في الأسباب التي أفضتْ إلى قصور بعضها، وتأخّر بعضها الآخر عن تلبية احتياجات المجتمع وأهدافها المرصودة والمعلنة، فهي كما سيأتي تفصيله في نهاية هذه السلسلة لقياس كفاءة أداء مختلف تلك القطاعات الحيوية، تتقاطع تماماً عند الأسباب ذاتها! لعل من أبرزها اختصاراً سيأتي إيضاحه لاحقاً: (1) سوء إدارة وتوظيف الإمكانات لمقابلة الاحتياجات التنموية، ومن ثم الفشل في تحقيق الأهداف. هذا الخلل نتج من، (2) ضعف أو غياب المعرفة والخبرة بكيفية ترجمة السياسات والبرامج المرسومة لتلك القطاعات على أرض الواقع، حدث ويحدث هذا على الرغم من توافر الموارد المالية الكافية، وحتى بعد زيادتها إذا تطلّب الأمر. ونتج أيضاً من، (3) ضعف أو غياب آليات الرقابة والمراجعة والمحاسبة. وكل هذا بدوره تفاقمتْ تشوهاته من السبب الأهم والأخطر والأشمل، (4) فقدان الرؤية الشاملة للتنمية عموماً، والذي أذكره على الدوام في كل مقام ومقال.
يمثّل التشخيص الدقيق للأزمات والمشاكل والتحديات 50 في المائة من طريق الحل! ويصل أحياناً لأكثر من تلك النسبة، لمساهمته الكبرى في إضاءة معالم طريق الإصلاح، وسد نوافذ القصور والفساد وسوء الإدارة.
كما تأكّد أعلاه؛ القطاع الصحي لا يعاني نقصا في الأموال بقدر ما أنّه يعاني الأسباب ذاتها المشار إليها أعلاه، وما تأخّر معدلات تنفيذ مشروعاته المخططة لما دون 24 في المائة، إلا أحد مؤشرات حالة الاهتراء التي يعانيها على مختلف مستوياته، مؤكداً أن هذا ليس نقداً عائم الأفكار! إنّها إحصاءات رسميّة ومعلنة، بناءً عليها تمّ قياس كفاءة أداء القطاع الخاضع لسلطة وزارة الصحة. إنني على يقين تام، أنّ الكشف عن المزيد من تلك الإحصاءات كفيلٌ بإيضاح تفاصيل أكثر، وهو المطلب الوطني الواجب تحقيقه الآن من الجهات الرقابية المعنيّة.
أدّى تأخّر تنفيذ المشروعات كما اتضح أعلاه إلى تواضع وتردّي خدمات القطاع، وساهم في زيادة الضغط الكبير على المتوافر منها! فماذا بشأن تأخّر العديد من الأنظمة كالتأمين على المواطنين، والرقابة على مستوى ونوع الخدمات الصحية وتسعيرها، وعلى صلاحية شهادات العاملين في القطاع؟ وماذا عن اهتراء الكادر الطبي؟ وعن تجاهل وزارة الصحة للتوطين؟ وحتى عن إعادة تأهيل وزيادة تأهيل مخرجات الكليات والمعاهد الصحية ”أكبر شاهد عليها قضية خريجي الدبلومات الصحية”؟ والكثير من الأسئلة المجهولة الإجابة من قبل الوزارة!
إننا أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إمّا اتخاذ التدابير اللازمة لإصلاح القطاع بدءاً من داخل بيت وزارة الصحة، وصولاً إلى آخر حدوده! أو استمرار أوضاعه الراهنة، أو ترْك تشوهاته تتفاقم، ويتزايد عبثها بمقدرات البلاد والعباد، وحينها سنصحو على ما لا تحمد عقباه، ولا يحجب ضرره الكارثي مليون تصريح ونفي ولقاء دعائي!
المصدر: الإقتصادية