على الرغم من الإنجازات والأحلام التي حققها كبار السن، خلال سنوات شبابهم، إلا أن إصابتهم بمرض يقعدهم على أسرَّة بيضاء في مستشفيات، يجعلهم يعودون إلى حمولة الماضي من الذكريات والقصص، ويزداد لدى بعضهم الشعور بالندم بأثر رجعي، على ما فعلوه أو على ما لم يفعلوه في تلك السنوات السابقة. وفي ممرات مستشفيات عديدة، يتناهى أنين يخرج من أبواب الغرف، وتتراءى ابتسامات محدودة يقطعها سعال حاد، بينما رؤوسهم تستند إلى وسائد لا يريدون اعتيادها.
عدد من المرضى، آباء وأمهات وأجداد وجدات، التقتهم «الإمارات اليوم» ليرووا قصصهم، وليعبروا عن ندمهم، وليقدموا نصائح للأجيال الجديدة ليتداركوها، قبل فوات الأوان. فأحدهم عبر عن ندمه لأنه تزوج بأربع نساء، واكتشف أخيراً أن حضن العائلة هو الدفء الحقيقي للإنسان.
ومريض آخر قضى 55 عاماً يشرح، واقفاً في الصف المدرسي، دروس الكيمياء لطلابه، لكنه الآن لم يعد قادراً على الوقوف لفترة طويلة. في حين عبّرت مريضة عن ندمها المتأخر، لأنها كانت تجمع المال طوال فترة شبابها، ولديها ثلاث شقق في بلدها، لم تسكن أياً منها، إذ تشعر بالوحدة، فهي مطلقة وليس لديها أبناء. ومريضة أخرى عبرت عن ندمها، لأنها منحت معظم وقتها وجهدها للعمل والثروة طوال فترة شبابها، فخسرت زوجها وأبناءها، وعاشت وحيدة.
في مستشفى “ميديور” في أبوظبي، التقت “الإمارات اليوم” «أبو محمد»، الذي يبلغ عمره 77 عاماً، قضى جلّها في قطاع التعليم، إذ قصد أبوظبي حينما كان عمره 23 عاماً، إذ يعاني أمراضاً عديدة، لم تؤثر في نفسيته، إلا أن مرض هشاشة العظام أثّر في حركته سلباً، يقول «صعب لرجل مثلي قضى معظم حياته واقفاً يشرح دروس الكيمياء، لمدة 55 عاماً لطلاب المدارس، أن يصل إلى مرحلة لا يقوى فيها على الوقوف إلا لمدة محدودة».
ويضيف عن فكرة الندم بأثر رجعي «أندم لأنني عملت كثيراً، وأهملت صحتي، ولم أفكر في التمتع بالسفر إلى مناطق عديدة من العالم، ولم أقضِ وقتاً كافياً مع أبنائي، فقد كنت أفكر في تأمين حياتهم المادية على حساب العاطفية». ويوجه نصيحة للشباب بأن يفرحوا بالحياة وتفاصيلها، وألا يكون الهم المادي هو الأساس، بل راحة البال هي الأولوية.
وتقول تهاني محمد من مصر، التي قدمت إلى أبوظبي حين كان عمرها 26 عاماً، لتعمل في التمريض، «كان هدفي أن ابتاع لي بيتاً في بلدي، وأعود وأمكث فيه، متخيلة أحفادي يلعبون في باحته»، مضيفة «عمري الآن 60 عاماً، تقاعدت حديثاً، ولديّ ثلاث شقق في مصر، لكنني لم أعش في أيِّ واحدة منها، إذ إن الطمع هو السبب في زيادة رصيدي المادي، فكانت النتيجة أنني كبرت، وأعاني ضموراً في القلب، ومطلقة وليس لديَّ أبناء، ووحيدة أيضاً، وأنتظر إذناً من المستشفى للسفر إلى بلدي». وتقول «أنا أروي قصتي، كي يتعظ منها جيل الشباب الحالم والمتمسك بالماديات، وأنصحهم بأن يحققوا شيئاً يفرحهم على الصعيد الشخصي، وأن يحافظوا على صحتهم، ويكون لهم رصيد مالي، لكن دون طمع في المزيد، وأن يستمتعوا، ويكافئوا أنفسهم على منجزاتهم».
أبو أحمد الظاهري، البالغ من العمر 70 عاماً، الذي يرقد في مدينة الشيخ خليفة الطبية في أبوظبي، يقول، وهو يبتسم، «أندم على الزواج من أربع نساء». ويكمل «ساءت حالتي الصحية كثيراً، بعدما جلست عند رأس زوجتي الأولى قبل أن تنتقل إلى دار الحق، وقالت إنها كانت حزينة عندما تزوجت عليها». ويضيف بجدية «حينما سمعت كلامها قبل وفاتها، نظرت إلى حياتي عائداً إلى الوراء، واكتشفت كم كنت لاهثاً وراء شؤوني الشخصية، على حساب أبنائي ومشاعر زوجاتي، وعندما اشتد بي مرض سرطان الرئة، تجمع نحو أكثر من 20 فرداً بين أبناء وأحفاد وزوجات، حينها شعرت فقط بأنه لا قيمة تعلو فوق قيمة حضن العائلة، فهو الأمان الوحيد للإنسان الذي يعد سنواته الأخيرة في الدنيا»، ناصحاً جيل الشباب «اقضوا أوقاتكم مع عائلاتكم، ولا يأخذكم الانبهار بوسائل التكنولوجيا الخالية من العواطف، احترموا زوجاتكم وقدّروهن، وكونوا مثالاً جيداً لأبنائكم، واستمتعوا بقدر يجعلكم تبتسمون في كل لحظة». ويضيف الظاهري بصوت مرح «لا تتزوجوا أكثر من واحدة، إلا إذا اقتضت ذلك ظروف صعبة». وبحسرة واضحة، تروي جولييت يوسف، التي يبلغ عمرها 68 عاماً، بعد علاجها في مستشفى ميديور في أبوظبي «من يرَ حياتي السابقة يتوقعْ أنها مثالية، فقد كان كل شيء يبدو مثالياً، بدءاً من عملي مديرة تسويق في شركة عالمية، مروراً بمنزلي والتحف الكثيرة فيه، وليس انتهاءً باهتمامي بجمالي عن طريق عمليات التجميل وحقن الـ(بوتكس) وغيرها، لكنني في الحقيقة، كنت أوهم نفسي بأنني سعيدة». وتتابع «خسرت زوجي وأبنائي، بسبب حبي الكبير للعمل الذي أعطيته كل حياتي، وعشت وحيدة سنوات عديدة، وعلاقتي مع أبنائي الذين يعيشون حالياً في أميركا كانت محدودة، لم أستمتع برؤيتهم وهم يكبرون أمامي، ولا برؤية أحفادي، لأنني نتيجة مبالغتي في حقي الشخصي في التقدم بالعمل، خسرتهم وخسرت تعاطفهم معي».
وتواصل سرد قصتها «بعد أن مر بي العمر، ولم أعد مناسبة للوظيفة التي كنت أعمل فيها، أسست مشروعي الخاص، وكنت أقضي جل وقتي فيه، وأزيد رصيدي في البنك، وأصرف الكثير من المال على عمليات التجميل، لكن كل هذا لم يكن حاجزاً لدخول السرطان على عظامي».
وتختتم بقولها «أنا اليوم وحيدة، يزورني بضع الأصدقاء، ويهاتفني أبنائي، ولو عاد الزمن إلى الوراء لما تخليت عنهم أبداً»، ناصحة جيل الشباب، خصوصاً الفتيات: «من الجميل أن تكون المرأة قوية ومستقلة، لكن الأجمل أن تكون محاطة بأناس يتمنون الخير لها دون مقابل».
المصدر: الإمارات اليوم