كاتب و محلل إيراني
في افتراضاته حول تحولات الرأسمالية، تصور كارل ماركس مرحلة يتجه النظام فيها صوب الطلاق الكامل ما بين الإنتاج والأرباح.
بعبارة أخرى، أنك تجني الأرباح من دون إنتاج أي شيء على الإطلاق.
وبمعنى من المعاني، فإن ذلك قد حدث بالفعل. فاليوم، على سبيل المثال، القيمة السوقية لعلامة «نايكي» التجارية هي أعلى بكثير من قيمة كل المصانع التي تنتج بضائع الشركة في جميع أنحاء العالم.
فهل يمكن للمعادلة التي سحبها ماركس على رأس المال أن تنسحب مرة أخرى على العمل؟
بعبارة أخرى أيضا: كيف تكون الحال عند كسب كثير من الأموال من دون إنتاج أي سلع؟
ينتقل شرف اختراع هذه النسخة من النبوءة إلى الإيرانيين.. حسنا، إلى بعض من الإيرانيين على أفضل تقدير.
لأكثر من عشر سنوات لم يكن الاقتصاد الإيراني قادرًا على خلق فرص العمل الكافية لموازنة الانفجار السكاني لفترة الثمانينات من القرن الماضي. وعلى الرغم من مستويات الهجرة العالية فإن النتيجة الملموسة كانت ارتفاعًا كبيرًا في معدلات البطالة، التي يبلغ متوسطها الحالي 13 في المائة. وبالنسبة إلى شريحة (16 – 25) العمرية من المواطنين الإيرانيين، تقترب نسبة البطالة من 20 في المائة، حتى تحولت البطالة إلى ما يشبه الخلفية الدرامية لكل مجال من مجالات الحياة الإيرانية المعاصرة، من الزراعة إلى التصنيع، مرورا بقطاع الخدمات العامة.
وهناك قطاع، رغم ذلك، وبعيدًا عن تعرضه للتدمير الممنهج لفرص العمل، قد شهد طفرة في خلق مزيد من الوظائف. وذلك القطاع هو الصناعة الدينية، وهي الماكينة الخفية التي تنتج الملا تلو الملا من الطامحين في اللقب والرتبة الدينية الرفيعة.
وآخر التقديرات تشير إلى أن عدد رجال الدين، ونعني بهم الملالي الحاليين والطامحين منهم (أي الطلاب) من مختلف الفئات، يقترب من 500 ألف ملا، مما يعني، ومن حيث الأرقام فقط، أن الهيئة الدينية الإيرانية تفوق في عددها تعداد قوات الحرس الثوري الإيراني وقوات الباسيج (تعبئة المحرومين) مجتمعين.
ويعد وزن الأرقام تقديرًا أفضل عندما نتذكر أن الصناعة النفطية، التي تمثل 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، و40 في المائة من الميزانية الوطنية، لا يعمل فيها إلا ثمانون ألف موظف فقط.
كما أن مقارنة ذلك الرقم مع عدد الأطباء العاملين في إيران، ويبلغ عددهم 18 ألف طبيب، وفقًا لوزير الصحة الإيراني الدكتور محسن هاشمي، تكشف عن كثير من المعاني. ويقول الدكتور هاشمي إن البلاد في حاجة إلى عشرة آلاف طبيب جديد لتجسير الفجوة الناجمة عن الأطباء الذين غادروا البلاد إلى المنفى.
وبسبب ذلك فإن كثيرًا من الشباب الإيراني الصغير الذي يقرر الانضمام إلى فئة رجال الدين، وتأمين مكان له في قطار السلطة المرموق وبأقصر الطرق وأوجزها، لا يعد من قبيل المفاجأة بحال.
في كل نظام حاكم، فإن المكون المهيمن على السلطة يجتذب مثل هذه الطاقات على الدوام. وفي الأرجنتين، على سبيل المثال، كان الحكم العسكري الممتد لعقود طويلة قد أدى إلى تضخم الجيش الوطني، إلى درجة أن عدد الجنرالات والعمداء في الجيش يكفي عشر دول مجتمعة.
كما أن هناك، مع ذلك، مجموعة من المشكلات تتعلق بالوضع الإيراني.
والمشكلة الأولى تكمن في أن إجراءات انضمام الناس إلى رجال الدين تتسم بكثير من الفوضى، على أقل تقدير.
وفئة رجال الدين الشيعة التقليديين تطبق قواعد صارمة ونظامًا معقدًا لترشيح واختيار أولئك الذين يرغبون في الانضمام إلى صفوفها.
ومن الطبيعي، فإن الطالب الطامح في ذلك سوف يبدأ بدراسة العلوم الدينية في سن السادسة أو السابعة، ويستمر في ذلك لمدة عشر سنوات أو اثنتي عشرة سنة متوالية، قبل انتقاله وقبوله في دراسة المناهج التي يشرف عليها رجل دين شيعي كبير.
ويخرج، خلال هذه العملية، ثلثا المتقدمين أو يتجهون نحو مهن أخرى غير رجل الدين. أما الباقون فسوف يواجهون عشرين عامًا أخرى من الدراسة الصارمة، قبل أن يطأوا بأقدامهم أعتاب الدرجات الوسطى من السلم الديني، ويحصلوا على لقب حجة الإسلام. والحصول على لقب آية الله قد يستغرق أربعين عامًا من الدراسة المتواصلة، وبالتالي فإن لقب آية الله العظمى لن يكون محفوظًا إلا لحفنة قليلة من رجال الدين في جيل من الأجيال.
وحتى ذلك الحين، لم يشعر العلماء بالراحة أبدًا مع مثل هذه الألقاب الدينية. على سبيل المثال، في أربعينات القرن الماضي، كان سيد كاظم العصار، أحد أعظم علماء جيله من الشيعة، كان يسخر من أولئك الذين يستخدمون لقب «حجة الإسلام» ناهيكم بلقب «آية الله». وأشار إلى أن مجمل التاريخ الإسلامي وحتى عام 1920 لم يكن به إلا عالم واحد يحمل لقب «حجة الإسلام»، وهو الفيلسوف اللاهوتي محمد الغزالي المتوفى عام 1111م.
واليوم، رغم ذلك، فإن الرحلة نحو لقب «حجة الإسلام» أو حتى لقب «آية الله» و«آية الله العظمى» قد تستغرق بضعة أشهر، إن لم تكن أسابيع على أكثر تقدير.
وفي عام 1978، كان علي أكبر بهرماني، والملقب باسم هاشمي رفسنجاني، يعمل مقاولاً للبناء في جنوب شرقي إيران ومن دون أي طموحات دينية تُذكر.
وبحلول عام 1978، عندما كانت الثورة الخمينية في أوج اشتعالها، ارتدى الرجل زي رجال الدين، وأوعز إلى رفاقه بأن يلقبوه باسم حجة الإسلام. بعد ذلك، وفي وقت ما من فترة التسعينات، بدأ أصدقاؤه في وصفه باسم آية الله، وفي عام 2007 رقى نفسه بنفسه إلى مرتبة «آية الله العظمى».
أما حفيد الخميني البالغ من العمر 42 عامًا، فقد فعل ما هو أفضل من ذلك. ففي عام 2012 كان مجرد طالب يدرس علوم الدين أثناء إدارته أعمال العائلة التجارية الكبرى، بما في ذلك ضريح آية الله الخميني المهيب في طهران. وفي عام 2014 تحول إلى حجة الإسلام لدى حاشيته وشركائه في الأعمال. وفي عام 2015، كان الملصق الذي يعلن عن رحلته إلى غولستان، وهي المحافظة الشمالية الشرقية من البلاد، يسوّق لرتبته الدينية الجديدة، ألا وهي آية الله. وبحلول عام 2016، كان المروّج الرئيسي له، رفسنجاني، يشير إليه بوصف «العلامة» (أي الرجل الذي يعرف كل شيء)، وهو اللقب الذي لم يمنح إلا لرجل دين واحد خلال مائتي عام مضت، وهو العلامة الطباطبائي.
ومن المؤكد أن الناس أحرار في اتخاذ ما يروق لهم من ألقاب وأسماء، بما في ذلك الدكتور وآية الله العظمى، ما دام أنهم لا يستخدمون هذه الألقاب غير المكتسبة باعتبارها وسيلة لتأمين منافع أو مزايا نقدية أو عينية من الخزانة العامة.
إذا تلقى الملالي التمويل من القطاع الخاص، أي من خلال آليات السوق مثل غيرهم من المشاهير من لاعبي كرة القدم أو نجوم السينما، فلن يكون هناك أساس للشكوى، وسوف يكونون جزءًا من الصناعة الترفيهية، حيث يبيعون شيئًا يريد شخص ما ابتياعه بأمواله الخاصة.
ولكن المشكلة في هذه الحالة إذا صرفنا أبصارنا عن بضعة آلاف من رجال الدين التقليديين الذين لا يزالون متمسكين بالأساليب القديمة، فإن أغلب نصف المليون ملا إيراني يتكسبون أموالاً جيدة جدًا من الخزانة العامة للدولة، ولا ينتجون شيئًا في المقابل.
وهم لا يخضعون لأي فحص أو مراجعة من أي شكل، ناهيكم بإجراءات الترخيص نفسها. إذا ما أردت قيادة سيارة للأجرة في تبريز يتعين عليك المرور عبر سلسلة عقيمة من الأطواق البيروقراطية. لكن إذا رغبت في أن تكون حجة الإسلام فكل ما تحتاجه هو لحية مطولة، وخياط جيد، ومهارة ربط العمامة.
والأسوأ من ذلك، أنهم لا يقومون حتى بمهمة رجل الدين التي تفرض عليهم دراسة الدين وتعليمه للناس وتلقينهم مختلف القيم والأخلاق.
فأغلب الملالي في إيران يقطعون أوقاتهم في الظهور على شاشات التلفاز، والخروج بتصريحات سياسية مختلفة تتعلق بالبلاد وبالخارج، أو لعلهم يعملون مثل وسطاء من ذوي النفوذ في الصفقات التجارية. فليس لديهم، تبعًا لذلك، إلا القليل من الوقت لأجل الدين.
ليس لديّ من اعتراض على الشباب الطموح الذين يسعى وراء المسار السريع للسلطة والثروة، لكن اهتمامي منصب على أنهم يفعلون ذلك على حساب الناس، ويقللون من قيمة الإيمان ويجعلونه عرضة للسخرية والمهانة.
في الشهر الماضي، أعرب رفسنجاني نفسه عن تراجع الإسلام في داخل الجمهورية الإسلامية. ولا عجب في ذلك. فكثير من الملالي يعني القليل من الدين.
المصدر: صحيفة الشرق الأوسط