كاتب سعودي
هذا هو (الأحد) الجديد بعد تغيير الإجازة، يبدو صارما وتعلو فوق صباحاته ملامح الجدية، يمضي الموظفون إلى أعمالهم وهم يحاولون أن يستوعبوا التغيير، بينما أجلس أمام جهاز الكمبيوتر وأنا محتار في تغيير إجازتي الأسبوعية في «عكاظ» كي تكون متوافقة مع بقية عباد الله، ليس لدي مزاج للمفاوضات الصعبة مع إدارة تحرير «عكاظ» حول تغيير مواعيد نشر هذا المقال؛ لذلك أفضل أن تسير الأمور حتى تأتي لحظة الحسم، فيتغير الأمر المعلق في لحظة خاطفة، فنكتشف أن الأمر لم يكن يستحق كل هذه المداولات والمراجعات الطويلة.
لا أحتاج إلى مهارات خارقة كي أتخيل أن عددا كبيرا من القتلى والجرحى سوف يسقطون اليوم في مختلف أنحاء العالم العربي، في مصر سوف تكون هناك صدامات ومواجهات كبيرة لا يمكن التنبؤ بحجم الخسائر البشرية الناتجة عنها، وفي العراق ثمة احتمالات كبيرة بأن يكون هناك تفجيرات انتحارية يروح ضحيتها أناس لا علاقة لهم بالصراع الطائفي والسياسي الذي يمزق البلاد منذ أكثر من عشر سنوات، وفي لبنان قد يسقط قتيل أو أكثر في ظل غياب الدولة وعجزها الواضح عن السيطرة على المليشيات المسلحة، وفي سوريا حيث تغرق كل المدن والقرى ببحار من الدماء سوف تحمل نشرات الأخبار أرقام القتلى بالعشرات دون أن يكترث أحد، هذا بخلاف القتلى الذين يمكن أن يسقطوا في اليمن أو ليبيا دون أن يكون ثمة متسع في نشرات الأخبار للحديث عنهم.
إنه يوم عربي أحمر مثل كل الأيام التي مضت والتي سوف تأتي، زمان أغبر لا يعمل فيه سوى النجارين الذين يصنعون النعوش، وباعة الأقمشة الذين يصفون الأكفان البيضاء أمام دكاكينهم، عالم عربي لا قيمة فيه للإنسان، يمر مدرس في طريقه إلى البيت فتتطاير أحشاؤه بفعل سيارة مفخخة فلا يكترث أحد باستثناء أبنائه الذين ينتظرونه على الغداء، سيدة في دمشق تحاول أن تخبئ أولادها تحت الدرج كي تتجنب القصف المدفعي فيهبط عليها الدرج دون أن يهتز ضمير أحد في هذا العالم، بائع متجول في القاهرة يحاول جاهدا تأمين أرغفة لأولاده فيخر صريعا حين يشتبك الفريقان المتناحران على السلطة.
حتى بكاء الأطفال المفجوعين بفقد آبائهم وأمهاتهم لم يعد مسموعا؛ لأن صراخ المحرضين على القتل والدمار أعلى من كل الأصوات، دعوات الثأر البربرية هي التي تتسيد وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي، لا وقت للدموع بل كل الوقت للدم المسفوخ على الطرقات، لا مجال للمشاعر الإنسانية المرهفة؛ لأن المجال مفسوح فقط لنزوات التوحش ورغبات الانتقام، أمة تخرج من التاريخ عبر قتل ضعفائها، وتخسر الجغرافيا بتسليمها الأمور للمجانين والمرضى النفسيين، أمة لم تكلف الأعداء عناء استباحتها؛ لأنها استباحت نفسها بنفسها.
في هذا المساء، لن أذهب إلى أي مكان في العالم، سأكتفي بالتفرج على نشرة الأخبار، وأتأمل أعداد القتلى والجرحى في سائر بلاد العرب، وأتخيل مشاعر الأطفال المفجوعين بفقد ذويهم، وأتساءل: كيف لم يجد العرب طريقا للحرية سوى التخلص من إنسانيتهم؟، أخدع نفسي مثلما يفعل الملايين من بني يعرب الذين يؤكدون بأن كل ما يحدث من خراب هو ضريبة لرياح التغيير، وأردد معهم: أيتها الجثث المتفحمة هنيئا لك بهذه الحرية!.
المصدر: صحيفة عكاظ