صحافي لبناني مقيم في لندن. حائز إجازة في العلوم السياسية من الجامعة الأميركية في بيروت وماجستير من معهد الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن.
كلام جون كيري، وزير الخارجية الأميركي، بالأمس، عن السير في تفاهم عملي مع موسكو في الشأن السوري يشكل انعطافة لافتة. هذه الانعطافة لافتة ليس فقط بالنسبة لتعامل واشنطن مع الأزمة السورية منذ أكثر من أربع سنوات ونصف السنة، بل لجهة الموقف الأولي إزاء التحرك الروسي اللوجيستي في شمال غربي سوريا قبل أيام معدودات.
لقد سمعنا، كما سمع الأميركيون أيضًا، عن «قلق» واشنطن تجاه عرض العضلات الروسي، الذي تجاوز «الجسر الجوي» المألوف خلال السنوات الماضية، إلى وجود عسكري فعلي، وتسلّم مرافق ومطارات، وكلام عن نشر قوات. ثم إن نفي وليد المعلم، وزير خارجية النظام السوري، الكلام المتواتر عن نشر روسيا قوات في محافظة اللاذقية ومناطق أخرى من البلاد، جاء في خاتمته ليؤكد ما أراد نفيه، عندما قال ما معناه إن دمشق مستعدة إذا قضت الحاجة لطلب الدعم الروسي المباشر.
وكما لو كانت هناك حبكة مسرحية؛ ما إن صدر «النفي» المقصود به «التأكيد» حتى تكاملت عناصر الحبكة، بإعلان موسكو جاهزيتها للحضور ميدانيًا بمجرد تلقيها طلبًا بذلك من نظام الأسد، الذي يعتبره فلاديمير بوتين «السلطة الشرعية».
في هذه الأثناء أخذ «القلق» الأميركي الأولي يتبدّد. وكالعادة، انتهى بقبول التفسير الروسي للوضع السوري. وهكذا، خلال ساعات وعبر مكالمات هاتفية بين وزيري الخارجية الأميركي والروسي وجدت واشنطن «إيجابيات في انضمام روسيا إلى الحرب ضد التطرف»، وقالت إنها على استعداد لـ«حوار عسكري» مع موسكو. وبعد الترحيب المتحفظ، فجّر جون كيري «قنبلته» في لندن عندما أيد عمليًا وجهة النظر الروسية المعبّر عنها بكل صراحة منذ انتهاء جلسات اجتماع «جنيف 1».
كيري وافق الروس على موقفين أساسيين: الأول، جعل «الحرب على الإرهاب والتطرّف» الأساس لأي بحث دولي في الأزمة السورية. والثاني، ترحيل البت في مصير حكم بشار الأسد، بدلاً من أن يكون هو المنطلق لأي حوار سياسي كما تدعو المعارضة السورية، بعد قول كيري أمس «إن رحيل الأسد لا يعني أنه يجب أن يكون رحيلاً فوريًا».
حتى اللحظة، ما زالت واشنطن تتكلم عن أن «لا مكان للأسد» في أي تسوية للأزمة السورية، ولكن تجربة السنوات الأربع الأخيرة مع تعهدات واشنطن لا تشجع كثيرًا على الاعتقاد بأننا سمعنا الكلمة الأخيرة في هذا الموضوع.
أضف إلى ما سبق، أن الكلام عن «الأسد الشخص» ربما يكون قد تجاوزته الأحداث فعلاً. صحيح أن بشار الأسد هو وجه الكارثة السورية، كما أنه سبب مباشر لها، لكن الحقيقة أنه كشخص غدا تفصيلاً صغيرًا لا يعتدُّ به. فالكلمة الفعلية على الأرض ما عادت له، بل لمن يعقد الصفقات ويستورد المقاتلين المذهبيين عبر الحدود، ويرسم بالدم والدموع خرائط تقسيم سوريا وتمزيقها.
بشار الأسد، لا يزيد ولا ينقص خردلة في الوضع العام إذا كانت التسوية السياسية التي تَعدُنا بها واشنطن اليوم مع «شريكيها» الجديدين موسكو وطهران – وطبعًا من وراء الستار، تل أبيب – سترسّخ تقاسم مناطق النفوذ، وتعطي تقاسم الكعكة السورية صفة قانونية شبه دائمة تتمتع بدعم دولي على أعلى المستويات.
لقد كثر الحديث، حتى بات ممِلاً، عن المناطق التي يحرص النظام ومحرّكوه وداعموه على الاحتفاظ بها. ومفهومٌ أنه في غياب أي حل سياسي حقيقي في العراق سيكون من الصعب ضبط المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية في غرب العراق وشرق سوريا (أي محافظات الأنبار وصلاح الدين ونينوى العراقية، ودير الزور والرقة في سوريا). هذه المناطق، التي تعدّ خزانًا بشريًا سنّيًا، وتجد نفسها محصورة بين مطرقة المشروع الإيراني التوسعي حتى البحر المتوسط، وسندان الحالة «الداعشية» التي غدت المبرّر الأول والأخير لرسم «سايكس – بيكو» جديدة، تدفع الثمن الإنساني والسياسي والعمراني الأكبر.
كيف ستشارك واشنطن في «الحرب على الإرهاب» طالما أنها اكتشفت الآن «الوصفة السحرية»، وقررت التعاون ميدانيًا مع موسكو علنًا، ومع طهران بصورة غير مباشرة؟
موضوع التسليح المشروط للمعارضة السورية المعتدلة يبدو الآن أكثر فأكثر محاولة عبثية للتخدير وكسب الوقت. والرهان الأميركي البائس على تجاوز الإشكالية التركية – الكردية في إدارة «الحرب على الإرهاب» عبر التجاهل المتعمد، ينم إما عن استخفاف فظيع بالحقائق على الأرض، وإما عن سوء نية صريحة إزاء تركيا التي وإن كانت بقواها الذاتية عاجزة عن الحل، فإنها قادرة جدًا على التعقيد.
أما إغفال مخاوف الدول العربية من مباركة واشنطن الهيمنة الإيرانية على العراق، وتوهّمها – أي واشنطن – أن تتقبل غالبية السوريين الذين أفلتوا حتى الآن من القتل والتهجير ببقاء ذهنية التسلط الحالية ومؤسسة الأمن والقمع اللتين عاثتا فسادًا في سوريا طيلة أربعة عقود، فمعنى هذا أن لا شيء تغيّر في سوريا سوى صورة رئيس، أو «رئيس – صورة».. لا تعني شيئًا.
اليوم هناك وقائع على الأرض في سوريا والكيانات المجاورة، يقول المنطق إنه ما عاد بالإمكان فصلها والتعامل معها بـ«القطعة».
مفهوم أن لدى إيران مصالح وربما كان من الإنصاف الإقرار ببعض هذه المصالح ما لم تأتِ على حساب الشعوب الأخرى في المنطقة، وتفرض عليها إما بقوة السلاح وإما بنيران الفتنة الطائفية والمذهبية. ومفهوم أن لروسيا هواجس، وهذه الهواجس قد تستحق التعامل معها بإيجابية وتعقّل. ومفهوم أن إسرائيل لاعب إقليمي لديه أيدٍ طويلة يستطيع استغلالها ساعة يشاء، وهو وإن كان يرفض الاندماج في بيئة المنطقة، فهو يرفض ألا يُحسب له حساب فيها. ثم من العبث التصور أن اللعب بالأحلام الكردية سيظل رخيص الكلفة، لا سيما أن «الوطن القومي» الكردي المستقل كفيل بالإجهاز ليس على سوريا والعراق، بل سيشكل قنبلة موقوتة لتركيا وإيران.
على الأسد أن يرحل.. طبعًا، ولكن يجب ألا تخفي محاربة «داعش» تناقضات المقاربة الأميركية المفزعة لأزمات المنطقة، وتحويل العرب وبلدانهم إلى حقول تجارب فاشلة.
المصدر: صحيفة الشرق الأوسط