محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت
كنت أود أن أعنون المقال بعنوان آخر هو: الانتصار السوري! إلا أنني خشيت أن أعطي القارئ العَجِلَ فكرة غير صحيحة عما أريد، خصوصا أن كثيرا منا يهتمون بالعناوين فقط! ما أرغب أن أعرضه للقارئ هو وجهة نظر يُسوِّقها النظام السوري عبر متحدثيه، ومن خلال وسائل إعلامه الموجهة إلى جمهوره والمتعاطفين معه، وهي وجهة نظر أحاول أن ألخص منها الزّبد، وهي الشتائم والاستهزاء الموجه ضد المعارضة وضد الدول التي يرى النظام أنها «تُحرض» ضده حتى أصل إلى صلب المنطق الذي يعرضه، وليس من أجل عرضه، ولكن من أجل إضاءة على نوع التفكير الذي يحكم دمشق اليوم.
تتلخص الأفكار العامة، كما تابعتها من خلال لقاءات مطولة عرضت على بعض وسائل الإعلام السورية الرسمية، تتلخص في المحاور السبعة التالية:
أولا: إن مركز العرب ومحورهم الأساسي هو ثلاث عواصم «دمشق الأمويين»، و«بغداد العباسيين»، و«قاهرة الفاطميين»، وهي المراكز الثلاثة الرئيسة في العالم العربي، وبقية الدول والأقطار هي «عرب عاربة» ليس لها ثقل تاريخي يذكر، كثير منها إما بلاد فلاحة، وإما بلاد بداوة. العواصم الثلاث الآن تتقارب مع بعضها لتشكيل محور «الإنقاذ العربي»، فهذه بغداد تشكِّل اليوم ضلعا مهما لمقاومة «البداوة التكفيرية»، وهذه دمشق تواجه بصدرها كل قوى التكفير والإرهاب، وهذه القاهرة قادمة بعد أن تخلصت من أدران «الإسلام الحركي»، وأتوقف هنا حتى أشرح أن وجهة النظر هذه تروج لمن يتابعها، في الداخل السوري وخارجه، أن مصر قادمة إلى محور «الحضارة» بعد أن رفضت أن تنضم إلى محور «البداوة» والتشدد! قد يبتسم عاقل بشيء من السخرية لهذا التحليل في النقطة الأخيرة بالذات! ولكنني على ثقة معقولة بأن الفكرة تستقبل من كثيرين على أنها حقيقة قادمة، خاصة اتساق العاصمتين (دمشق وبغداد) في تحالف المنتظرين!
ثانيا: إن الولايات المتحدة، وبالطبع معها إسرائيل وبعض العرب الذين يسيرون في ركابها، ترغب في أن تُطوق روسيا، التي تعتبرها خطرا على مصالحها في المديين المتوسط والبعيد، بطوق مُعادٍ من دول إسلامية حليفة، وقد فعلت ذلك في سلسلة من أفغانستان إلى باكستان إلى دول إسلامية في وسط آسيا. ويذهب الرأي ليقول، إن ثغرة ذلك العقد هي إيران التي تستعصي على إحكام الطوق حول روسيا، وبالتالي فإن محاولات الولايات المتحدة والغرب في إخضاع إيران، طبعا بمساعدة من دول عربية، تحث على الدخول في حرب معها، وإسرائيل التي تستعد لذلك، هذا الاستعصاء على الحلف الغربي، يبرر اتهام إيران المتزايد بدعم سوريا والعراق، وهو اتهام مبالغ فيه ويسعى إلى شيطنة إيران! وهي الآن المطل الرئيس لروسيا على الشرق الأوسط وحلقة الطوق المكسورة وحليفة النظام السوري.
ثالثا: إن الموقف الغربي من روسيا في الفترة الأخيرة، خاصة في أوكرانيا، هو بسبب فشل «جنيف 2»، الذي دفعت به القوى الغربية، وترى تلك الدول أن الفشل كان بسبب مساندة روسيا لسوريا، لذلك «اختلقت» لها مشكلة في أوكرانيا، وقد تخلق لها مشكلات أخرى لإشغالها عن الشرق الأوسط!
رابعا: إن مشكلة أوكرانيا الرئيسة هي إجبار الرئيس الأوكراني على التخلي عن منصبه وترك البلاد، ولهذا وقعت أوكرانيا في هذه الفوضى التي تهدد وحدة ترابها واستقرارها ربما لعقود طويلة قادمة، ومن هنا «حكمة الرئيس الأسد» في عدم تركه بلاده وعاصمته، لأن ذلك بالضرورة سوف يخلق فراغا يقود إلى تقسيم سوريا.
خامسا: القوى التي أجبرت الرئيس الأوكراني على الرحيل هي قوى «فاشية»، وهنا استعارة من نفس التعبير الروسي لتوصيف تلك القوى، وهي كمثلها التكفيرية في سوريا، بل إن بينهما علاقات وثيقة (بين التكفيريين والفاشيين) ويقومان بنفس الأعمال التخريبية في البلدين وبنفس الأسلوب، كما يتعاون «رؤساؤهما» مع الغرب وإسرائيل!
سادسا: إن سقوط دولة الوحدة (السورية المصرية) لأنها كانت دولة «مخابرات»، وإن الرئيس الأسد هو أول من دعا إلى إصلاحات في النظام السوري منذ عام 2007، وإنه أكمل تلك الإصلاحات بتغيير الدستور، والسماح الآن بانتخابات «تعددية»، وهو اعتراف بأن بعض الأخطاء ارتكبت في الماضي ويجري إصلاحها الآن في سوريا، وأن المرحلة القادمة، وهي مرحلة «قرب الانتصار»، تواجه تحديات أكبر مما واجهت سوريا منذ ثلاث سنوات، بقاء النظام كل هذا الوقت دليل على «حب الشعب السوري» الذي كان أول من صنع الاستغلال في البلاد العربية، على تمسكه بالنظام وبرئيسه!
سابعا: إن السوريين مسيسون، بل من أكثر العرب انشغالا بالسياسة، فليس جديدا عليهم الاختلاف الواسع على مسارات مجتمعهم، ولكنهم اليوم يرفضون التكفيريين والغلاة، لذلك سوف ينتخبون الرئيس الأسد من جديد!
حاولت أن ألخص في النقاط السبع السابقة مصفوفة الخطاب الإعلامي والسياسي للنظام السوري وحوارييه في وسائل إعلامه المختلفة والمتعاطفة، وهي كما يرى القارئ الفطن يمكن أن توصف بدس السم في العسل، تبدو من الخارج في بعضها للبسطاء وكأنها نقاط ارتكاز يصلح أن تكون قابلة للتفكير، ولكنها في الوقت نفسه تخلط «التمني» بالواقع والخيال بالحقيقة.
كيف يمكن أن يصدق عاقل أن ما يحدث في سوريا انتصار، بعد كل هذه الآلاف المؤلفة من القتلى، وهذه الملايين من المشردين، وهذه البلاد التي أصبحت خرائب تنعق فيها البوم! وكيف يوصف نظام بأنه «حضاري» ويقبع في مقابره مئات الآلاف من القتلى دون ذنب، وفي سجونه أمثالهم وعلى حدوده أضعاف أضعافهم من اللاجئين؟! وأي شعب سوري سوف «يظل معه رئيسه»: الأيتام؟ الثكالى؟ المعوقون؟ النائحون الجائعون؟ هؤلاء من سوف يظل الرئيس السوري معهم!
خطاب النظام السوري العام يمثله أحسن تمثيل، فهو عليل وخاوٍ ورديء ومشوش في الوقت نفسه، كما يتصف بالوقاحة لأنه يعتبر المتلقي السوري «أهبل» أو بنصف عقل، حتى يصدق تلك الطروحات الوهمية التي يتبناها؛ ذلك الخطاب عندما تظهر نتيجة الانتخابات الرئاسية التي سوف تحقق للرئيس نجاحا كاسحا بعد أسابيع من الآن، سوف يبين للشعب السوري وحتى لمن بقي منه مساندا خوفا أو رجاء، أن وهم التغيير أو الإصلاح قد فات زمانه، وأن الانتصار الذي يتحدث عنه الخطاب السوري اليوم هو انتصار تلفزيوني على أحسن تقدير.
آخر الكلام:
أكثر المتفائلين يعطون وقتا لا يقل عن أشهر لظهور تشكيل وزاري جديد بعد الانتخابات الأخيرة في العراق.. الديمقراطية لا تنتعش في مجتمع متصدع.
المصدر: الشرق الأوسط