حينما أكتب هنا عن أبي، فإني أكتب عن جيل عملاق في كفاحه ومبادئه ووفائه وأسفاره ورؤيته لنفسه ومجتمعه. وحينما أنعى أبي، ذلك الرجل العملاق في سيرته ووفائه لأصدقائه وأقاربه، وأُثني على بعض خصاله الكريمة، فلن أكرر هنا ذلك النهج الطيب في مقصده وأقول: ليس لأنه أبي، بل أكتب هنا عن أبي لأنه أبي.
فما أعرفه أن تجربة الأب، في غالب الأحوال، تبقى من أقوى – إن لم تكن الأقوى- ما يؤثر على حياة الإنسان ومسيرته ورؤيته وما يصل إليه. وأبي كان وما زال من مصادر الإلهام الرئيسة في حياتي، إذ تكفيني ثقته ودعمه لكل قرار مهم اتخذته في حياتي، وهو من جيل لم تتح له تجربة الدراسة كما أتيحت لي ولإخوتي، لكنه كان يدرك أن التعليم وخوض تجارب الحياة من أهم ما يصقل مسيرة المرء وينجيه، بعد توفيق الله، من مزالق الحياة ومقالبها.
وإذ أكتب هنا عن حدث حزين، كفقد الأب، فلابد من عودة سريعة لمرحلة الطفولة التي تحمل الراسخ في الذاكرة عن الأب وبعض من ذكرياته.
نشأت في منطقة تلعب فيها الأعراف القبلية العريقة دوراً مهماً في تنظيم حياة الناس وعلاقاتهم مع بعضهم البعض ومع القبائل المجاورة. كانت سمعة الرجل أغلى ما يملك وسمعة العائلة هي ثروتها الحقيقية.
وكان أبي، ربما بالفطرة، قد جُبل على محبة الناس وتقديم حسن الظن على سوئه في علاقاته مع الجميع. امتلك منذ طفولته مهارات مبهرة وحرصاً مدهشاً على السعي لإصلاح ذات البين في مجتمعه الصغير، وأصبح تدريجياً من رموز الإصلاح بين الناس، من معارفه ومن غيرهم، على مستوى تجاوز حدود عشيرته وقبيلته والقبائل المجاورة.
عشت طفلاً في سراة عبيدة، بلاد قحطان، وأنا أرى وفوداً كثيرة، أفراداً وجماعات، تتوافد على قريتنا الصغيرة في جبال الوادي الأبيض، تنتخي بأبي، كما تقتضي عادات وأعراف القبيلة، إما للتدخل لحل فتنة قبلية، أو لكفالة سجين ضاقت به الدنيا، أو لإصلاح ذات البين بين إخوة فرقتهم خلافات على مزارع أو أراضٍ مشتركة.
كان بعض المختصمين بعد أن تعبوا من مراجعة الدوائر الحكومية وإجراءات المحاكم يتفقون فيما بينهم على الصلح شريطة أن يكون الوسيط هو (الشيخ علي بن هتلان)، ثم يفدون إلى أبي طالبين منه التدخل للإصلاح بينهم وحل نزاع عمر بعضه سنوات، بل سمعت من بعض مشايخ القبيلة والقبائل المجاورة أن أبي انتزع مكانة خاصة في مجتمعه منذ نعومة أظفاره، بحرصه على الإصلاح بين الناس وزياراته المستمرة لكبار السن في منطقته، يسلم على هذا ويطمئن على ذلك، يشاركهم أفراحهم وأحزانهم. ومن حرصه على التواصل مع كبار القبيلة وأعيانها وهو في سن مبكرة، تعلم الكثير من أعراف القبيلة ودروس الحياة.
كان أبي عصامياً بامتياز، فقد خرج من بيئة كانت الحياة فيها صعبة وتجارب السفر محدودة، لكنه أصر على أن تكون عائلته من أوائل الأسر في الجنوب التي امتلكت سيارة نقل، طاف بها، مع شقيقه الأصغر، العم محمد بن هتلان، رحمه الله، أرجاء الجنوب والحجاز ونجد. وبدأ بها تجارة صغيرة، حيث كان ينقل القمح والبن والمسافرين من الجنوب إلى جدة ومكة، ويعود من هناك ببضائع مختلفة إلى أسواق الجنوب، من النماص إلى نجران.
.ولم تكن التجارة تحديداً هدفه في رحلاته وتنقلاته بقدر ما كانت رحلة من التجارب والمعارف والعلاقات؛ إذ عُرف عن والدي، رحمه الله، حرصه الشديد على معرفة الناس وبناء صداقات وثيقة في كل المدن والمناطق التي يزورها. أذكر أنه سألني مرة عن معنى المثل القائل: «ابن لك قصراً في كل أرض تزورها». ثم شرح لي المعنى الذي طبقه في حياته، وهو أن تؤسس لصداقات حقيقية في كل مدينة أو بلاد تزورها أو تقيم وتعمل بها. كان رحمه الله، يسألني دائماً عن أصدقائي ومعارفي في دولة الإمارات الحبيبة، بل ويوصيني برعاية الصداقة والإخلاص لها. وفي زياراته القصيرة لأبوظبي ودبي كان شديد الحرص على زيارة بعض الأقارب والمعارف هنا.
لقد أعجب بالإمارات وما شهده فيها من نهضة كبيرة، أحب شيوخها وأهلها الطيبين، ممن تشرفت برفقته في زياراته لهم، في أبوظبي ودبي. وبعد كل جولة في أبوظبي أو دبي، كان يطلب مني أن نتجول خارج المدن ليتعرف على مناطق أخرى مثل الرحبة والباهية والعين. وعلى الرغم من عشقه للجبال والصحراء، إلا أنه في الوقت ذاته يستمتع بزيارة المدن الكبيرة واكتشاف معالمها مثل الرياض وأبوظبي ودبي وعمان والقاهرة وبومباي.
في عزاء والدي، قبل شهر، سمعت قصصاً مبهرة في الوفاء والنبل الإنساني رواها كثير من المعزين، وهي في أغلبها جديدة على مسمعي، قصصاً عكست حرصه على زيارة كبار السن ومن أقعدهم المرض حتى أن أحدهم روى لنا كيف أن أبي واظب على زيارة أبيه المقعد، وشبه الفاقد لوعيه، على مدى 18 سنة، لا ينقطع عن زيارته أسبوعياً إلا إذا كان خارج الجنوب، وتلك من عشرات القصص التي لا يتسع المقام لذكرها، ولكنها في مجملها تعكس وجهاً إنسانياً لجيل يرى في زيارة المرضى وكبار السن قيمة ومبدأً إنسانياً يأتي مقدماً على كل الالتزامات الأخرى.
كان أبي، وقد عاش في صحة جيدة لأكثر من 100 سنة، لطيفاً في معاملته، عادلاً في خصومته، وكان فعلاً وسطياً في تدينه، تدين عفوي يُعلي القيم الإنسانية ولا يصادم أعراف القبيلة في النبل والوفاء والكرم و«الفزعة» والشهامة. وكان يكره التطرف بكل أشكاله ويمقت أولئك الذين يتلاعبون بعواطف الناس – باسم الدين – ثم يسوقونهم إلى ساحات الموت العبثي – باسم «الجهاد» – في أفغانستان والعراق وسوريا وغيرها. أبي من جيل مارس عملياً فكرة «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً».
رحم الله أبي!
أدركت الآن أنني كنت – من دون وعي – أحتمي بأبي حتى وأنا بعيد عنه. من دون الأب، مهما كبرت، ستجد نفسك كمن يحارب في العراء. الأب يبقى ذلك الجبل الشامخ، حصنك المنيع في الرخاء وفي الشدة!