كاتب ومحلل سياسي- لندن
بعدما ألغى تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» هذا المسمّى، الذي اختُصر عربياً بـ«داعش»، ليعتمد اسماً بديلاً هو «الدولة الإسلامية» بداعي أن زعيمه أعلن نفسه «أميراً» للمسلمين ولم تعد ولايته على «العراق والشام» فحسب. وطالما أن الحديث هو عن مجموعة مسلحة استفادت من تزعزع الحكم والانقسام المذهبي والسياسي للشعب في هذين البلدين، فالأفضل الاستمرار في إطلاق اسم «داعش» عليه، حتى لو كان يستفزّ قادته وعناصره الذين استشعروا فيه تحقيراً وصاروا أخيراً يعاقبون الناس إذا استخدموه. والواقع أن الكلمة المستهجنة «داعش» ما كانت لتُستنبط وتحظى بطابع كاريكاتوري أسود لو أن عناصر التنظيم أشاعوا انطباعاً آخر غير الدموية واللاإنسانية على نحو ما فعلوه منذ ظهورهم في مناطق منكوبة أصلاً بحرب فرضها النظام السوري عليها.
لم يكن اسم «داعش» ليعني شيئاً في حد ذاته، فلا جذر له في اللغة ولا إشارة في مراجع الإسلام، باعتبار أن الاشتقاقات الدينية شائعة بقوة. غير أنه اكتسب مع الوقت المعنى الذي يشينه. فمن يقول «داعش» يقول الاسم ويعبّر عن رأي سلبي في صاحبه. وهذا لا يتوفّر في الاختصار الأجنبي بعد ترجمة التسمية الى الإنجليزية (إسلاميك ستايت أوف إيراك أند سيريا)، إذ أفضى إلى «آي اس آي إس» ما يمكن أن يكون اسماً لعلامة تجارية جذابة، ويُلفظ «آيزيس» ما يذكّر بأسطورة إلهة الأمومة في مصر القديمة، وهذه تزوجت أخاها «أوزيريس» الذي غار منه أخوها الآخر «ست» فقتله. و«إيزيس» هو اللفظ اليوناني القديم للإسم، أما اللفظ الفرعوني فكان «حيزيت» أو «حاز»، ويُعتقد أن اسم «العزى» اشتُقّ منه لأحد أصنام العبادة ما قبل الإسلام. وفي كل ذلك إيحاءات كثيرة يمكن إسقاطها على الواقع، لمن يريد أن يحلل علاقات التزاوج والطلاق وحروب الإخضاع والإلغاء بين تنظيمي «القاعدة» و«داعش».
وكان سوريون لاحظوا أن مواطنيهم الخارجين من مناطق سيطرة هذا التنظيم ويريدون العودة إليها حيث بيوتهم وعائلاتهم، يحرصون على القول إن «الدولة» فعلت كذا أو قالت كذا، إذ عوّدوا أنفسهم على ذلك بغية السلامة. ولما اختلط الأمر على الآخرين في البداية اضطروا للتوضيح بأن المقصود بـ«الدولة» هو «داعش» وليس «النظام» لأن الأخير أصبح طرفاً ولم يعد دولة، قبل أن يضيفوا أن «العصابتين» تعملان معاً منذ البداية، وقد شوهد رجالهما معاً أكثر من مرّة، وتتوفّر تسجيلات لاتصالات هاتفية تنسيقية بين «داعشيين» و«شبّيحة». أما لماذا أطلق الناس اسم «داعش»، فلأن الفهم العام سرعان ما التقط أنه جيء بهذه العصابة لتخريب الثورة، فلا هي «دولة» ولا هي «إسلامية»، وبالتالي فإن إجمالها «العراق والشام» بدا أكبر كثيراً من الحجم الحقيقي لما هو مجرد «تنظيم» في نهاية المطاف. وطالما أن الهوس بلغ بزعيمه حدّ إحياء «دولة الخلافة» وإعلان نفسه «خليفة» «أميراً» فقد استحق فعلاً أن يكون «داعش» اسماً لعصابته، طالما أنه يسيء الى الإسلام والمسلمين، وليقل بعد ذلك أنه أمير أو إمبراطور، لا فرق.
ليس في الأمر انفصال عن الوقع، ولا إصرار على شعبوية فارغة، فيما يواصل التنظيم التوسع جغرافياً رابطاً محافظات العراق العربية بمحافظات سوريا الشرقية. ولكنه أثبت مهارة غير مسبوقة في صناعة رسالته الإعلامية، وفي استخدام الوسائل الحديثة للتواصل. وفي الأسبوعين الأخيرين ضخّ في الإعلام مزيجاً من عراضات القوة العسكرية لاجتذاب مزيد من المتعاطفين أو الراغبين في التطوّع ومشاهد القتل الجماعي لإشاعة الخوف والرهبة. ثم جاء إعلان «الدولة الإسلامية» و«أبوبكر البغدادي» أميراً بمثابة تتويج لـ«الفتوحات»، فبماذا سيشار إلى التنظيم منذ الآن بعد أن غيّر اسمه، هل سيقال «الدولة» والبغدادي هل سيدعى زعيم التنظيم أو «أمير المسلمين»؟ إذن، سيكون «داعش» قد حقق انتصاره الأكبر إعلامياً. والحال أن ثمة قنوات تلفزيونية تمتنع كلياً عن اعتماد كلمة «داعش»، مصرّةً على الاسم الكامل، ومن ثم بدأت تستخدم «الدولة الإسلامية». وقيل إن النقاش في غرف الأخبار أخذ بالقاعدة الكلاسيكية التي تقضي باستخدام الأسماء من دون تحريف، ثم تطرّق إلى أن اللغة العربية لا توفّر إمكان الاختزال إلا إذا كانت الجهة المعنية (كـ «فتح» و«حماس» و«وعد»…) هي التي تصوغ اسماً مختصراً وتعتمده.
صحيح أن هناك انطباعاً عاماً بأن أحداً لا يأخذ «داعش» على محمل الجدّ، ولكنه استطاع أن يصنع حالاً باتت تستدعي تدخلاً دولياً، وإحياءً لـ «الحرب على الإرهاب» بعدما كانت الإدارة الأميركية أعلنت انتهاءها بل تستعد للانسحاب من أفغانستان بنهاية هذه السنة. ففي سوريا كما في العراق أصبح «داعش» علامة فارقة، ولو بحالين متناقضتين، ومعطىً قلب الموازين والحسابات. والأكيد أنه في صدد استدراج البلدين إلى كارثة، فالأخطر من «داعش» هم من سمحوا له بأن يتضخّم ويتغوّل إلى هذا الحدّ.
المصدر: الاتحاد