رئيس تحرير جريدة الشرق الأوسط
الدول الصغيرة تغريها الأدوار الكبيرة. تجد فيها نوعاً من الثأر مما تعتبره «ظلم الجغرافيا». تعتقد أحيانا أن الدور يوسع الخريطة ويحميها. وتستسلم لمتعة اللعب على ملاعب الآخرين. ومشكلة الأدوار الكبيرة أنها جذابة وكثيراً ما توقع في الإدمان. ومن الصعب إقناع المدمن بالعودة إلى دور يوازي حدود الخريطة. وفي الغالب لا بدَّ من العلاج بالصدمة.
بديهي أن تسعى دولة ما إلى تعزيز دورها أو تلميعه، لكن المسألة تكمن في طبيعة الدور وما إذا كان يدخل ساحات الآخرين من بواباتها الرسمية والشرعية. التسرب إلى الساحات من دون علم الحكومات والإمساك بأوراق على أرض الآخرين وتحريكها والسعي إلى تغيير ملامح تلك الساحات أعمال مثيرة لكنها محفوفة بالأخطار.
واستخدام تعبير الدول الصغيرة لا يتضمن أي إساءة. إنه وصف لواقع. وأنا أصلا من دولة صغيرة وهشة في آن.
كانت الأدوار الكبيرة سابقاً مرهونة بالثقل السكاني وحجم الجيش والموقع الجغرافي وعوامل أخرى. في العقود الأخيرة اختلفت بعض الحسابات. صار باستطاعتك حجز دور إذا امتلكت القوة الناعمة، كأن يكون لديك إعلام يصل إلى الآخرين ويؤثر فيهم، إضافة إلى عائدات كبيرة من الغاز والنفط.
فتحت تجربة جمال عبد الناصر شهيّة عدد من الحكام لبناء زعامة عابرة للحدود ومحاولة تغيير ملامح الإقليم. تجربة صدام حسين معروفة النتائج. ليبيا بدورها دفعت باهظاً ثمن ولع معمر القذافي بأدوار تفوق قدرة بلاده على هضمها أو احتمال تبعاتها.
كي تكون مؤثراً في ملاعب الآخرين لا بدّ لك من الانخراط فيها. اجتذاب حكام أو أحزاب أو منظمات. وامتلاك أوراق تؤهلك لتكون مرة وسيطاً وأخرى معرقلا. وقد تتيح هشاشة بعض الدول للاعب الخارجي أن يتحول في بعض المراحل ممراً إلزامياً لبلورة هدنة أو إطلاق مخطوفين أو استرضاء متطرفين.
في عالم المعسكرين لعبت جزيرة صغيرة اسمها كوبا دوراً كبيراً وخطراً. كادت تتسبب في مواجهة أميركية – سوفياتية إبان أزمة الصواريخ الكوبية. انتهت الأزمة بتسوية ضمنت سحب الصواريخ السوفياتية من كوبا في مقابل تعهد أميركا بعدم إسقاط نظام فيديل كاسترو. بقيت كوبا على امتداد عقود شوكة في خاصرة العملاق الأميركي. وأدمن كاسترو مهمة إضرام النار في الرداء الأميركي ودعم الثورات والانتفاضات من أميركا اللاتينية إلى أفريقيا. لكن كاسترو عاد إلى الجزيرة وانهمك بهاجس البقاء داخل الخريطة بعدما انفجر الاتحاد السوفياتي وتبدد. القذافي أيضا انكفأ إلى حدود الخريطة محاصراً بعدما وصل في سياسة إضرام النار إلى حد ارتكاب تفجير لوكربي.
متكئة على «الجزيرة» والعائدات، وقعت القيادة القطرية في إغراء الدور الكبير. يمكن القول إنها ذهبت بعيداً وأفرطت. راودتها أحيانا أحلام انقلابية ورغبة في تقليم أدوار تاريخية في الإقليم. لقد سمعنا لسنوات عن المثلث السوري – القطري – التركي بديلاً للمثلث السوري – السعودي – المصري. هذه المغامرة ليست بسيطة لمن يعرف ركائز الأدوار التاريخية في الإقليم والأحجام الراسخة لبعض الدول.
رأينا الدور القطري أيضاً في رعاية «اتفاق الدوحة» بين اللبنانيين الذين كانوا يعيشون في ظل سلام وفره لهم «اتفاق الطائف». رأيناه أيضا في عملية ضغط غير مسبوقة على السلطة الفلسطينية لضمان موقع «حماس» وحصتها. وصل هذا الدور إلى حد التفرد في توفير منصة إعلامية لأشرطة أسامة بن لادن في منطقة مكتظة بمشاعر الإحباط، فضلا عن الفقر والبطالة وأثقال التاريخ.
مع اندلاع «الربيع العربي» ذهبت القيادة القطرية أبعد في محاولة تغيير المنطقة. ظهرت بصمات هذا الدور جلية في ساحات متعددة. في مصر وليبيا وسوريا واليمن. راهنت قطر بوضوح على الربيع الإخواني وتمسكت بهذا الرهان حتى بعد اصطدامه بصخور الواقع في أكثر من مكان. الرغبة في امتلاك القدرة على التحدث إلى الجميع جعلت الدور القطري حاضناً لكل المتناقضات التي تمتد من قاعدة أميركية إلى علاقات مع تنظيمات مدرجة على لوائح الإرهاب.
أضعف الدور القطري أهل الاعتدال في أكثر من ساحة ومكان في دول «الربيع العربي». اتسمت بعض حلقات هذا الدور بكيدية واضحة ضد الدورين السعودي والمصري. في حرصها على دعم المعارضات في الدول الخليجية وخارجها بدت القيادة القطرية متمسكة بسياسة إضرام النار في رداء جيرانها.
أثار الدور القطري القلق وأثار الأسئلة. هل يحق لدولة مثل قطر أن تستخدم قوتها الناعمة لمعاقبة الوضع الحالي في مصر؟ وهل يحق لها تغليب فريق ليبي على آخر؟ وتغليب فريق فلسطيني على آخر؟ تحولت سياسة التدخلات القطرية سياسة لزعزعة الاستقرار في المنطقة التي تشهد أيضا هجوماً إيرانياً واسعاً وتمزقاً مذهبياً غير مسبوق.
تجاوز دور قطر قدرة جيرانها على الاحتمال. لا تستطيع البقاء عضواً طبيعياً في مجلس التعاون وتستمر في الوقت نفسه في لعب دور كوبا القديم. كل ما يطلبه من اتخذوا الإجراءات الأخيرة ضدها هو أن تعود دولة طبيعية بدور طبيعي، أي أن تشبه كوبا التي عادت إلى خريطتها بدل التعلق بكوبا فيديل كاسترو، التي كانت تضرم الحرائق داخل خرائط الآخرين.
المصدر: الشرق الأوسط