كاتب سعودي؛ كان سفيراً لبلاده في منظمة اليونسكو
«تحية إلى الصديق ناصيف حتّي»
في مطلع الشهر الماضي حزم ناصيف حتّي حقائبه عائداً إلى القاهرة بعد أن مكث في باريس ١٢ عاماً سفيراً لجامعة الدول العربية لدى فرنسا ولدى منظمة اليونسكو. هذه هي الصياغة الرسمية للخبر، وعدا عن ذلك، ففي كل يوم هنالك من يحزم حقيبته مغادراً اليونسكو وباريس، قد تتشابه الحقيبة لكن تختلف الحقيقة!
مثّل ناصيف، لي وللمجموعة العربية في المنظمة، مرجعية أساسية ومتكأً صلباً عندما تحتدم النقاشات، إذ يُشهر سلاح خبرته في وجوه المعاندين بعد أن يمتطي حصان ديناميكيته ويركض بين الصفوف، كان من فرط الدينامية عنده أنه أحياناً يوشك أن يعطيك الجواب قبل السؤال. عندما تركَنا ورحل فهمت بعدها بأيام ما يقصده اللبنانيون بـ «الثلث المعطّل»!
ناصيف حِتّي لم يكن أول لبناني أتعرّف إليه، ولا أظنه سيكون آخر المتميزين منهم.
في الستينيات الميلادية، كان لبنان أول بلد أزوره خارج وطني. هناك وحينذاك، تعرفت للمرة الأولى على: الفرّوج والتلفريك والمسيحي!
ظل أبي يأخذنا كل صيف لنمكث في عاليه شهرين أو ثلاثة، ننعم فيها بالبلد مع الشعب الأكثر استمتاعاً بالحياة الدنيا من بين كل شعوب الكون. وعندما نشبت الحرب الأهلية في العام 75، توقفنا عن التصييف في بيروت إلى مدينة عربية أخرى، لكن لبنان لم يتوقف لا عن التصييف ولا عن الحرب حتى الآن.
في ٢٠ آذار (مارس) المنصرم كنتُ في بيروت، مشاركاً في مؤتمر لليونسكو، وكانت روائح التوتر السياسي والأمني تزداد فوحاً كل يوم، والناس يترقبون لكنهم لا يتوقفون عن «العيش بسلام في ظل الخوف»! مثل هذا الوضع يسمونه في العالم: الحرب الباردة، أي التي لم تشتعل بعد، في لبنان قد يكون من الأفضل أن نسميها: الحرب النيّة، أي التي لم تنطبخ بعد، آخذين في الاعتبار أن اللبنانيين يأكلون الكبة نيّة ومقلية!
في مساء ٢٢ آذار (مارس)، ليلة مغادرتي بيروت، كنت في عشاء عند السفير السعودي الخبير علي عسيري، الذي كان يستقبل المكالمات المتوالية من كل الأطياف اللبنانية حتى ظننت أنه هو «الطائف». التفت إلينا وأخبرنا عن سقوط الحكومة اللبنانية، باستقالة الرئيس ميقاتي، لم يكن قلقي من سقوط الحكومة مثل قلقي من سقوط الطائرة التي كانت ستطير بنا بعد ساعتين في ليلة بيروتية مليئة بالأعاصير التي أسقطت الأشجار بعد أن أسقطت الحكومة (حمانا الله من شر العواصف).
عندما خرجت إلى المطار ظننت أني سأجده فارغاً تماماً أو مكتظاً تماماً، مثلما يحدث عادة في الدول التي تسقط حكوماتها، لكنه لم يكن هذا ولا ذاك، لأن طائر الفينيق اللبناني في حالة طيران دائم، بمحض أجنحته لا «أجنحة» الحكومة.
في البلدان النمطية تقوم الحكومة بتسيير أعمال الشعب، في لبنان يقوم الشعب بتسيير أعمال الحكومة!
بعد أسبوع من عودتي إلى باريس، وما زالت أعراض «سقوط» ناصيف حتّي ثم سقوط الحكومة اللبنانية ماثلة أمام مخيلتي، اتصل بي سفير لبنان المتمرس لدى اليونسكو خليل كرم، ليخبرني بقرار لبنان تقديم جوزيف مايلا مرشحاً لبنانياً مكيناً ومتيناً للتنافس على منصب (مدير عام منظمة اليونسكو). كأن السفير الفينيقي المحلّق دوماً يريد أن يقول لي: إن لبنان وطنٌ قد تسقط فيه الحكومة لكن لا يسقط فيه الشعب.
المصدر: صحيفة الحياة