كاتب عمود يومي في صحيفة الوطن السعودية
ولو أنني سئلت عن لقطة العام الثقافية لأجبت بلا تردد: هو منظر عشرات الطلاب الجامعيين وهم يغادرون قاعة جامعة اليمامة تاركين المفكر الضخم، إبراهيم البليهي، وحيداً على المسرح. هو “مقطع” استثنائي مدهش يصلح لوحده كتاباً عن “بنية التخلف”. تبدأ الصورة في اللقطة عندما تقدم أستاذ جامعي “مغاربي اللكنة” بالهجوم اللفظي على المحاضر، وبالطبع، لا سلاح لديه سوى لغة دغدغة العواطف بالحديث المضاد عن أمجاد العرب الساحقة السحيقة، وعن أفضالهم التاريخية على المنجز البشري، وعن إسهاماتهم التي وكما وصفها “بنت حضارات الهند والسند وقصور الأندلس… إلخ”. وفي نهاية مداخلته العصماء، طلب هذا الأستاذ الجامعي من الجميع الانصراف ومقاطعة المحاضرة، وكان في غاية النشوة وهو يسجل هذا الهروب الأخلاقي من مواجهة الفكرة بالفكرة. هذه بالضبط هي حجج العجائز والأطفال كما وصفها المحاضر نفسه وهو يصف تلك اللحظة.
تشعر بالحزن الشديد لأن هؤلاء الشباب الذين استجابوا للنداء الغوغائي بالانسحاب والمقاطعة كانوا وكما يبدو أقل قدرة من فهم واستيعاب البنى التحليلية التي يتحدث بها المحاضر. كانوا وكما يبدو أكثر فقراً حتى في القدرة على فهم المفردات اللغوية في صلب المحاضرة، وهنا أدرك هذا الأستاذ الجامعي طبيعة السوق وطبائع رواده. سحبهم إلى عنتريات الاستلاب التاريخي ولغة المشاعر العاطفية لأنه أيضاً، كان مثلهم، عاجزاً عن الاستيعاب وعن مقارعة الحجة بالحجة. لجأ إلى لغة الوعظ والتخويف، ومن الطبيعي أنه لم يجد سوى إقحام الدين في صلب نقاش لا علاقة له به في المحاضرة وأطروحة المحاضر. عرف هذا الأستاذ الجامعي الثائر طبيعة الفرد السعودي ومداخل استثارته، فلجأ إلى حوار الجدل العقيم الذي تسمعه من فم أطرف عجائز محو الأمية، أو تقرؤه في كتب المطالعة بالمرحلة الابتدائية. تسألني: ولماذا انسحب هؤلاء الشباب بمثل هذه الطاعة العمياء، وقد يكون الجواب البدهي لأن هذا هو أستاذهم الجامعي الذي يقرأ عليهم قصص التاريخ المجيد حتى صدقوا الكذبة الكبرى من أن بني يعرب هم من بنى قصور وحدائق الأندلس. وهنا سأقول: كيف بنيناها هناك بتلك الهندسة المدهشة وبتلك الأفكار الحداثية الخلاقة فلم نستطع هنا وعلى أرضنا في تلك الأيام أن نبني لأنفسنا أكثر من ألف سنة؟ من هو الذي سيجرؤ على الكلام أمام هذا التزوير التاريخي ليقول لهؤلاء إن العرب هناك كانوا حكاماً في القصور التي بنتها الأفكار “القوطية”، أو سيقول إن الأندلس لم تكن يومها سوى جزء من حركة الهجران الأوروبي الصاعدة بكثافة في ذلك الزمن. وهنا سيدخل هؤلاء إلى دغدغة العواطف بإقحام الدين في سلة صراع فكري حول حقبة من التاريخ تتحدث عن منجز مادي صرف مجرد. هؤلاء الأساتذة ليسوا مجرد آلة تزوير، بل مكائن اختطاف لعقول الآلاف من شبابنا. هم من أوصل هذه الأمة إلى القاع الذي تعيشه اليوم وهم يهربون بهم من مواجهة الواقع إلى النوم على وسادة تاريخ محرف.
المصدر: الوطن