كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية
بدأ هذا السؤال العام الماضي في بدايات الربيع العربي بصيغة «هل ستلحق الملكيات العربية بالجمهوريات التي انهارت كحجارة الدومينو؟»، وقتها كانت الجمهورية التونسية بكل حداثتها تثور وتسقط رئيسها، وتطلق موجة امتدت إلى جملة من الجمهوريات العربية، أعرقها وأكبرها مصر، فليبيا ثم اليمن.
تغيّر السؤال بعدما خبت جذوة الربيع وتحول إلى شتاء وأزمات بعدما ترك آثاره حيثما حلّ، فأصبح: «لماذا نجت الملكيات العربية… وإلى متى؟».
أكتب مقالي هذا من البحرين، تلك المملكة العربية الصغيرة التي نالتها أشد أعاصير الربيع بين غيرها من الممالك العربية، ولكنها نجت هي ونظامها الملكي العريق، وإنْ لا تزال البلاد في حالة «توقف». البعض يقول إن المعارضة هي من وصلت إلى طريق مسدود. أعتقد أن كل الأطراف البحرينية أمام هذا الطريق المسدود، فهذه الجزيرة الجميلة تستنزف رصيد نجاحها السابق. هذا النجاح هو الذي حمى النظام ومنع البلاد من الانجرار إلى مصير الجمهوريات العربية، وسوف يمكِّنها من انطلاقة جديدة بكل مكوناتها، بعد مصالحة لا بد أن تتم.
هناك جمهوريات عربية نجت هي الأخرى -حتى الآن- من الربيع العربي، ولعل من حق زعمائها أن يحتفلوا بعدما مرّت بجوارهم العاصفة، مثل الجزائر والسودان وموريتانيا والعراق، غير أن «نجاة» هؤلاء لها أسباب غير أسباب الملكيات، ولا تجوز مقارنتها بها، هذه الجمهوريات ليست موضوع المقال ولكن أحسب أن أسباب نجاتها كالتالي:
– الجزائر لم تخرج بعد من ويلات عشريتها السوداء، سبقت كل العرب إلى «الربيع» قبل ربع قرن فما نالها غير حرب أهلية أودت بنحو 150 ألف جزائري، ولكن لا أحد يضمن المستقبل وثمة حراك منضبط فيها.
– السودان، يعيش نهضة اقتصادية، ثم أملاً يراه السوداني بعد سنوات عجاف، حاله مثل ما قال ديبلوماسي بريطاني لم يحب الإسلاميين فيها: «الناس الغلط يعملون الشيء الصحيح»، صعود الإسلاميين من حول حكومة الإنقاذ خصوصاً في مصر هو أفضل خبر بلغهم بعد الخبر الجيد الآخر، انفصال الجنوب بكلفته الباهظة.
– موريتانيا، ثمة حراك يجري فيها، ولكنها أيضاً سبقت جيرانها إلى انفتاح وانتخابات حرة.
– العراق، حيث يعترك سياسيوه فشغلوا كامل الشعب معهم، لا يوجد خصم واحد لكامل الشعب العراقي مثلما كان صدام حسين، فهم منقسمون الآن طائفياً، وما لم يتحد الشعب، جُلُّه أو بعضه فلن يستطيعوا المطالبة بحقوقهم، ذلك أن انتفاضة سنية سيراها الشيعة تهديداً لمصالحهم فيقفون ضدها مع حكومتهم «الشيعية»، وانتفاضة شيعية لن يقدموا عليها خشية أن يستفيد منها السنة. إنها تلك القاعدة القديمة «فرق تسد».
في النهاية، لن ينجو أحد من حتمية الإصلاح، إذا ما استحال التغيير، بتأثير «ارتدادات الربيع العربي» بما في ذلك الملكيات المستقرة.
ولكن لماذا نجت الملكيات العربية؟ لننظر في أسباب الغضب الذي أشعل الشباب وأطلق الربيع، إنه الاقتصاد المتردي، البطالة، والفساد، انتهاك الكرامة، والحرمان من الحرية وسوء توزيع الثروة والعدالة الاجتماعية المفقودة. الحق أن الدول العربية كافة تشترك في أكثر من واحدة مما سبق، وإن بتفاوت، ولكن العامل المشترك بين الملكيات هو أن أداءها الاقتصادي أفضل من الجمهوريات بما في ذلك غير النفطية، فالاقتصاد المغربي مثلاً أكثر حيوية وتنوعاً من نظيره الجزائري، كما أن نسبة النمو هناك (حوالى 5 في المئة) تكاد تكون ضعف ما هي في الجزائر، على رغم تمتع الأخيرة بثروة نفطية هائلة، وإن حققت نسبة دخل أعلى للفرد من المغرب، ولكن الفضل في ذلك يأتي فقط من ارتفاع أسعار النفط وليس نتيجة إنتاج حقيقي، كما أن المواطن الجزائري يعاني من سوء حاد في توزيع الثروة، بسبب طبيعة النظام «الإقطاعية» حيث تتقاسم وتتوارث الثروة طبقة حاكمة تعود بجذورها إلى مراكز قوى أمنية وعسكرية، كأنها النظام «المملوكي» الذي حكم مصر في القرون الوسطى، خلف ستار من الديموقراطية المزيفة، أما الأردن الملكي التقليدي المفتقر إلى ثروات طبيعية، فلقد حول موارده البشرية إلى ثروة، فزاد دخل الفرد فيه على سورية «الجمهورية الثورية التقدمية»، إذ يبلغ فيه 5400 دولار بالمقارنة مع 4800 فقط في الثانية، وهي الأغنى بأرضها الخصبة وصناعتها القديمة، كما تنتج نحو 300 ألف برميل يومياً، ولكن لا تعرف لها طريقاً للموازنة العامة.
سبب ذلك هو نظام اقتصادي حر واحترام أفضل للملكية الفردية، وتحسّن مستوى التعليم فيهما وتوافر قدر أفضل من العدالة الاجتماعية، ولكن لم يمنع ذلك المواطنين فيهما من التحرك في إطار الربيع العربي مطالبين بعدالة أكثر، وفساد أقل، ومشاركة سياسية، ولكن توقفوا دون الدعوة إلى التغيير الكامل وإسقاط النظام… فلماذا؟… ولا حاجة للاسترسال في شرح أوضاع اقتصادات ممالك الخليج، فهي الأكبر اقتصاداً ورخاء في كل العالم العربي على رغم كل وجوه التقصير والأخطاء.
أعتقد أن السبب الحقيقي هو طبيعة «العقد الاجتماعي» الواضح بين الحاكم والمحكوم في الملكيات العربية، فهذه الملكيات، خصوصاً في دول الخليج، تعاقدت مع مواطنيها على أساس أنها علاقة بين أسرة مالكة وشعب، لم تعده يوماً بحق انتخاب الحاكم، ولا حتى رئيس الوزراء. العلاقة حتى وإن بدت غير عادلة للنخب المثقفة، إلا أنها لا تقوم على «الغش والخداع» بينما هي كذلك في الجمهوريات التي تأسست على وعد حق الشعب في اختيار حاكمه، بل إن معظمها امتداد لنظام ثوري انقلب على نظام ملكي، ثم تحولت إلى «جمهوريات ملكية»، ففي سورية الثورية تسلّم بشار الأسد الحكم من والده، وفي مصر مبارك وليبيا القذافي ويمن علي عبدالله صالح كانت الإجراءات سارية لتوريث السلطة لابنِ كلٍّ منهم. هذا الشعور بالخداع كان من أقوى مسببات الغضب، إذا أضيفت إليه العوامل السابقة الذكر من فساد وسوء إدارة وبطالة وانتهاك للكرامة والحريات العامة.
زين العابدين في تونس هو الوحيد الذي لم يكن لديه ابن يعده لولاية العهد، ولكن تحولت أسرته وأقاربه إلى ما يشبه الأسرة المالكة التي تتمتع بمزايا ضيّعت عليه الأداء الاقتصادي الجيد نسبياً بسبب اعتماده سياسة اقتصادية ليبرالية منفتحة، عبّر عن ذلك شاب تونسي سمعته على قناة «فرنسا 24» يشرح أسباب ثورته: «أعرف ما هي الديموقراطية، درستها في مدارس بلادي، قرأت عن جان جاك روسو، ولكن لم أرَ شيئاً من ذلك في حكومة بن علي، فثرنا عليه»… في الخليج لن يقول أحد جملة كهذه، لأن الملوك والأمراء هناك لم يعدوا شعوبهم يوماً بديموقراطية كاملة، ولكنهم وعدوهم بحياة أفضل، وهذا ما على الملكيات العربية توفيره لشعوبها، ولكن هل يستطيعون ذلك من دون الديموقراطية؟ هذا هو السؤال.
وحيثما وجدت في «العقد الاجتماعي» بين الحاكم والمحكوم إشارة إلى الديموقراطية والمشاركة في الحكم مثل البحرين والكويت، تتحرك النخب المثقفة والمنتخبة تطالب بتحسين شروط العقد.
الخلاصة أن الشعوب تثور وتغضب عندما تشعر بالغبن عندما يخلّ طرف بشروط التعاقد، ولو خلا «عقد» من شرط الديموقراطية إلا أنه لن يخلو من شروط العدالة والمساواة والحرية والمشاركة بأي صيغة كانت.
نقلا عن “الحياة” اللندنية