في أحد صباحات العام 1966، تولّى الوالد الشيخ زايد، طيب الله ثراه، مقاليد الحكم في أبو ظبي. كانت آبار النّفط قد بدأت العمل قبلها بسنوات قليلة، وكان في خزينة الحكومة يومها ما يقارب الأربعين مليون دولار. نظر الشيخ زايد حوله فرأى الناس في فقر وحاجة، فأرسل رجاله إلى جميع المناطق ليدعوا الناس إلى الحضور إلى مجلس الحاكم، ثم أمر المسؤولين بسحب أكبر مبْلغ ممكن من الخزينة.
بدأ الناس يتوافدون على المجلس، وأخذ الشيخ زايد يوزع الأموال عليهم في مشهد لم يعهدوه من قبل. كان القادمون ينحدرون من جميع مناطق “الإمارات المتصالحة”، كما كانت تُعرف دولة الإمارات حينها، من ساحلها الشرقي وحتى القُرى الغائصة في بطن الصحراء.
بعدما تأكد الشيخ زايد بأن كل محتاج قد حصل على مبلغ يسدّ حاجته لمدة عام (بلغ مجموع ما وُزّع عشرين مليون دولار) عكف على تأسيس الدوائر والمؤسسات الحكومية وتعيين رؤسائها ومسؤوليها. وكان ينطلق معهم بعد شروق الشمس للوقوف على سير مشاريع البنية التحتية، يتحاور مع العُمّال والموظفين، يلتقي بالناس ويستمع إليهم.
ظلّ هذا روتينه اليومي إلى قبل وفاته بمدة قليلة. ما زلتُ أذكر حديثه كُلّما خرجنا بالسيارة، وهو ينتقل من التشاور مع مَن رَكِبَ معنا من مستشاريه حول المشاريع التي ننوي زيارتها في ذلك اليوم، إلى الكلام في الأدب والشعر، ولا ينسى أن يذكر طُرْفة هنا وأخرى هناك في وسط كلامه الجميل. لم نكن ندري أي ساعة سنعود إلى البيت، لذلك كُنّا نضع الغداء في حقيبة السيارة، ثم نتوقف عندما يطلب ذلك ونأكل في أي مكان. كانت العودة قبل المساء نادرة، ورُغْم أنني كنتُ أتمنى أحياناً أن نعود مُبكّرين، إلا أنني أتمنى الآن لو لم أفارقه يوماً واحداً.
سألني ابني محمد ذو العشْر سنوات قبل أيام: “لماذا كان بابا زايد مُخْتلفاً؟”. توقفتُ عند سؤاله كثيراً، فكلّنا يُحب زايد، ويرى فيه شخصية تاريخية مميزة، لكن متى سألنا أنفسنا لماذا؟ عندما أنظر إلى تاريخ الشيخ زايد، أقف على بعض محطاته، وأتساءل عن سبب إصراره على القيام ببعض الأعمال التي بدت، حينها، صعبة، ولا تصب في مصلحته الشخصية.
فالاتحاد، على سبيل المثال، الذي عكف مع الشيخ راشد بن سعيد، رحمهما الله، على تحقيقه متجاوزين كل العراقيل والعقبات والمطامع الشخصية لكثير من الناس حينها، وأصرّا على تحقيقه إلى درجة أنهما وقّعا (اتفاق الوحدة) بين أبو ظبي ودبي في بداية عام 1968 في منطقة السّميح، أي قبل الاتحاد بأربع سنوات تقريباً. الاتحاد لم يكن في مصلحة أبوظبي التي بدأت عائدات النفط تتدفق عليها، فلماذا لم يظلّ الشيخ زايد مستقلاً ببلده؟، لماذا حاول جمع تسع دول، في ذلك الحين، من الساحل الشرقي وحتى البحرين؟، قد يقول أحدهم إنه كان سياسياً مُحنكاً، وفهم التغييرات الجيوسياسية حينها. وقد يقول آخر إنه كان صاحب نظرة استراتيجية.. لكنني أقول إنه كان قدوة حقيقية.
كان يتحدث طوال حياته عن محبة الناس، عن حُبّه لكل إنسان يحمل صفات نبيلة، وكان يُفضّل العيش بين أكبر عدد ممكن من البشر على الانزواء بقبيلته وجماعته، ولهذا كان مختلفاً. فقبل أن يقوم الاتحاد أسس (صندوق تطوير الإمارات المتصالحة) الذي اهتم بمساعدة أهل القرى البعيدة وتنفيذ مشاريع حيوية في مناطقهم، واليوم ما زالت هذه الاستثمارات الحيوية مستمرة في (مبادرات رئيس الدولة) متّعه الله بالصحة والعافية، (وصندوق أبو ظبي للتنمية) وغيرها، سيْراً على نهج زايد الذي عاش بين الناس كواحد منهم، يشاركهم كفاحهم وطعامهم وأحلامهم.
لقد أعاد سؤال محمد إليّ الكثير من الذكريات مع الوالد. فأذكرُ مرة عندما دخل عليه مجموعة من قبيلة (الشحوح) أنه تحدث معهم بلهجتهم الجميلة، لكن الصعبة أيضاً. نظرتُ إلى إخوتي فوجدتهم مثلي، مستغربين مبتسمين، فلم نكن نعلم قبلها أنه يتقن لهجة الشحوح. وكانت لديه جُمْلة شهيرة يكررها دائماً كلما التقى مع الناس: “شي قاصر عليكم؟ شي قاصر على أهلكم”. لا أدري لماذا كان حريصاً على معرفة حال كل إنسان يلتقي به؟، وعندما أقول كل إنسان فأنا أعني كل شخص يمر به إما في المجلس، أو يوقفه في الطريق وهو يقود السيارة، أو يلتقيه في مكان عام أو في زيارة خاصة، كان يسأل الجميع إن كانوا يحتاجون شيئاً. وأذكر مرة أننا كنا خارجين بالسيارة من القصر فأوقفتنا امرأة. فتح النافذة فاقتربت منه وحدثته ثم دفعت إليه بأوراق، وعندما أخرج يده ليأخذها جرحته، بخاتمها ربما أو بقلم في يدها. أخذ الأوراق ثم أدخل يده بسرعة وهي تنزف حتى لا تراها. ظلت المرأة تحدثه وظل يستمع إليها. أردنا أن نتدخل ونوقف النزيف إلا أنه أشار بيده ألا نفعل حتى انهت المرأة كلامها وانصرفت.
ولقد كان التعليم من الأشياء التي حرص عليها جداً، رحمه الله. فعندما بدأت المدارس تنتشر في أبو ظبي كانت الأُسَر ترفض إرسال أبنائها وبناتها إليها، حيث كانوا يساعدونهم على أعمالهم اليومية. فخصص الشيخ زايد مكافآت مالية للعائلات مقابل كل ابن أو ابنة تُرسلهم إلى المدرسة حتى لا يشعروا بالعجز والحاجة في غيابهم. واليوم، عندما أرى أبناء وفتيات الإمارات يتنافسون لتحصيل أفضل الدرجات العلمية، أقول في نفسي: هذا غرسُ زايد.
وأذكر أنه في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي انتشر وباء (دودة غينيا) التي كانت تُعرف بـ (الأفعى النارية). حيث تُعشش الدودة تحت جلد المريض لمدة طويلة وتظهر على شكل أفعى، ورغم أنها لم تكن قاتلة إلا أنها كانت تُسبب آلاماً مبرحة للإنسان. امتد الوباء حتى وصل إلى اليمن والهند وباكستان، وكان سبب انتشاره شُرب الناس من المياه الملوّثة. وفَوْرَ أن بدأت منظمة الصحة العالمية حملة كونية لاستئصال المرض، اندفع الشيخ زايد للمساهمة في حفر الآبار وتأمين المياه النظيفة في الدول المنكوبة. استمرت الإمارات تحفر وتعالج للقضاء على المرض، وخصوصاً في أوغندا التي تُعد ثالث أكبر دولة مصابة به، حتى استطاعت التخلص من المرض تماماً عام 2004، وهو العام نفسه الذي تُوفي فيه الشيخ زايد.
حديثي مع ابني محمد كان طويلاً، لكنني أحاول تلخيصه حتى لا أطيل. ومن الأشياء التي حدثته عنها وفاء الشيخ زايد للناس، وإدراكه لحجم المسؤولية المُلْقاة على عاتقه أمام الله أولاً ثم أمام شعبه. فلقد قال مرة: “إن الله لم يعطِ الثروة لزايد وحده، وإن كان زايد هو المؤتمن على أموال هذا الشعب، فهو يحاسب نفسه، وهو صادق مع شعبه. أدعوكم جميعاً إلى أن تروا بأنفسكم أين تذهب أموال النفط في هذا البلد. إنها توجه نحو تعبيد الطرق، وبناء المستشفيات، وتوسيع خدمات المياه والكهرباء، وتشييد المدارس حتى تكون متاحة لكل مواطن”.
بعد أن أنهيت حديثي قال لي محمد إنه تمنّى لو عاش مع الشيخ زايد، فقلتُ له: “شوف حولك، في كل مُخْلِص بتشوف زايد. في كل مجتهد، في كل مبدع، وفي كل طَموح ما يعرف اليأس بتشوف ويه أبونا زايد”.
المصدر: إيلاف http://elaph.mobi/news/962584/